أوشك أذان الفجر… !
بقلم: ربيع عبد الرؤوف الزواوي

ريثما عاد الرجل الصالح إلى بيته، قادما من المسجد بعد أداء صلاة التراويح، وكانت ليلة يؤمل فيها أن تكون ليلة القدر، وقد كان الإمام حسن الصوت، قوي الحفظ، حسن الأداء، فأثر ذلك في نفس الرجل الصالح، لا سيما وقد بكى ليلتها معظم المصلين حوله، وقد غص بهم المكان، وافترش المصلون الأماكن المجاورة للمسجد؛ راجين رحمة ربهم جل وعلا، سائلينه إصلاح حال المسلمين في كل مكان.


تأثر الرجل الصالح ليلتها تأثرا بالغا، وعاد إلى بيته راكبا سيارته، وقد تاقت نفسه إلى شيء لا يجده في الواقع، ولايتصور أن يراه، وقد امتلأت شوارع القاهرة من حوله صخبا، وقد رأى زحام الناس وهم يقبلون على شراء ما يلزم لعيدهم، فرأى فرقا واضحا بين الحالين؛ حال صفاء وخشوع، يقطع سكونه صوت الإمام بآيات لو كُلف بها جبل لتصدع من الخوف، ولفرق وجلا من الحساب، وصوت همهمة الباكين يسمعهم حولة، فما باله لا يبكي ومصيرهم واحد؟! فيبكى الرجل في جملة الباكين.

وحال اللاهين العابثين وقد ارتفعت أصواتهم وعلت ضحكاتهم …..لماذا لا يبكون مثل الأولين والمصير واحد؟!.

وصل الرجل الصالح إلى بيته، فطرق باب أهله وطفق يقبل بنياته الصغار الثلاث؛ يلتمس لطف ربه بذلك التحنان، ويهرب من مقت الله على أولئك الذين ( إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) والآية في أذنه وعقله غضة لم ينسها وقد سمعها ووعاها منذ قليل، فسلم على أهله بالرحمة والبركات، وسامرهم متلطفا، سائلا: هل صليتم فريضة الله؟ فسمع: وصلينا التراويح أيضا. فابتهج فرحا ودخل حجرته لينام، ولكن لاتزال الصورتان في ذهنه والحالان في فكره وعقله، فأطفأ المصباح ومسح فراشه بجزء منه، وسحب غطاءه فالتحف به، وأغمض عينيه، وراح خاطره يداعب تلك الصورة التي يحلم بها، وقد ساعده السكون وظلام الحجرة على الاستغراق في تلك الصورة التي تتوق نفسه إليها.

إنها صورة مدينة تجمع الصالحين فقط؛ مدينة فيها الأنبياء والمرسلون والمصطفون الأخيار، وأتباعهم من كل العصور والأمصار؛ آدم عليه السلام هو أكبر أهل هذه المدينة سنا، والكل يوقره ويقبل يديه، ونوح نائبه إذا غاب ومستشاره الأمين، ومحمد صلي الله عليه وسلم عالم هذه المدينة ومرشدها، والكل ينطلق بناء على توجيهاته وأوامره، ويطبق ما يقول، وموسى وهارون عليهما السلام مسؤلا الشئوون الإسلامية، وشعيب خطيب هذه المدينة، وداود قارؤها، وسليمان قاضيها، وعيسى حكيمها، وأيوب طبيبها، ويوسف وزير اقتصادها وأمين خزائنها، و……….

لم ينتبه الرجل الصالح من الاستغراق بفكره في تلك المدينة الحلم إلا على صوت جرس الهاتف يقطع عليه رحلته التي استروح فيها وتنسم عبق الحياة في رحاب الصالحين، وتمنى لو لم تنته رحلته، وود لو كان قد فصل أسلاك الهاتف وأغلق هاتفه المحمول، ولكن ليس أحد على الهاتف، إنها مرة مثل مئات المرات التي يسمع فيها صوت جرس الهاتف، فإذا رفع السماعة لم يجد أحدا، زاد ذلك من همه، فرجع لا يلوي إلا على إطلالة من نافذة الحجرة على الشارع الذي يسكن فيه، فرأى ربما آلاف السيارات التي توقفها إشارات المرور، لاسيما وبيته يطل على تقاطع طريقين كبار من طرق القاهرة الواسعة المزدحمة، وسمع صخب الناس، فقطع عليه ذلك ما كان تبقى في ذهنه من الصورة التي استغرق عقله في العيش في رحابها.

وراح الرجل الصالح يقارن بين مدينته وواقعه، فلم يرى في المدينة مكانا للغافلين، ولا مكانا للمفسدين، ولا وجودا للمخربين، ولم يجد في مدينته بيتا أبيض يخطط لتملك مصادر الرزق في الأرض ليستولي عليها، ولا ( بنتاجون) يرسم لنسف الطمأنينة والأمن في آمال الخلق، ولم ير مكانا للكيان الذي سموه إسرائيل، ولا طُغمة من محترفي الشر، ولا فريقا من مصدري الموت و قاتلي أحلام الآباء والأمهات المؤملين في أبنائهم وبناتهم…

جملة لا نهاية لها من الآمال والأحلام، ولا مكانا لزارعي الخوف والهلع في قلوب الناس؛ من أولئك الذين يبتزون أموال الناس ليأمنوا لهم مستقبلهم زعموا، ولا وجودا لمروجي الدعايات المغرضة لتشويه الحقائق في عقول الناس، ولم يجد كذلك مكانا لأولئك الذين يبيعون الوهم للناس في الإعلام في صورة مسابقات على أسئلة لا يجهلها ابن خمسة أعوام، ولا الذين يسرقون أموال الأمم في صفقات الوهم الهاربين خارج البلاد ممن لهم اسم خاص بهم، فهم وحدهم: رجال الأعمال.

لم يجد الرجل الصالح أيضا مكانا لملايين البنات العانسات اللاتي لايفارق عقل الواحدة منهن صورة زوج يملأ فراغا في حياتها لا يملؤه ألف عمل تعمله أو ألف منصب تناله، بسبب ارتفاع النفقات في كل شيء ووصول المجتمعات لظاهرة الإنفاق التفاخري، ولا مكانا لملايين المرضى الذين وقعوا أسرى للأمراض التي تنتشر في كل مكان بسبب مَن مات ضميرهم من أصحاب المزارع المنتجة للخضر والفاكهة؛ إذ يضعون فيها ما يكبر حجمها ولو على حساب تسببها لأمراض قاتلة، المهم الثروة وليذهب الناس إلى الجحيم.

ولم يجد كذلك مكانا للتفكك الأسري الذي يعصف بالمجتمعات، ويهدد الدول والشعوب، ويخرب الأرض، ويأذن بالزوال.
كل ذلك وغيره جال في عقل الرجل الصالح وخاطره، ولم تذهب بعيدا من باله تلك الصورة المثالية التي كان منذ قليل يحلم بها، وقد وجد فيها مجتمعا تعطل قاضيه فلم يجد قضية يقضي فيها؛ فالناس يعرفون ما لهم وما عليهم، والكل بأرقى القيم والمثل متمسكون، فالهواء نقي، والجو صفي، والأرض صالحة، والعبد راض عن ربه، والرب راض عن عباده.

الأرض وقد عمها الود وفاضت البركات، أنبت الله لهم الزرع، وأدر لهم الضرع، ورفع عنهم الكروب، وذل الديون، والفقر والهوان، ولم يعد صاحب الصدقة يجد من يسلمها له، والأُسر وقد التأم شملها، وسعد أفرادها بالعيش في ظل قبول هدي السماء للأرض.
غاب عن تلك المدينة أمراض المجتمعات الحديثة، فلا نميمة ولا غيبة ولا حقد ولا حسد ولا سفك لدماء بريئة، ولا جري مسعور خلف حطام الدنيا من أرصدة مدخرة، يموت أصحابها فيتمتع بها غيرهم ويُسألون هم عنها.

وظل الرجل الصالح ينظر من شرفة بيته، والوقت يمضي وهو لايشعر، نادته ابنته: أبي هيا خذ الدواء واشرب الماء؛ أوشك أذان الفجر…..

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon