بينما كنت أتصفح أحد المواقع الإخبارية التي تعنى بتحديث الأخبار كل ساعة وذلك مساء يوم الأحد 18 شوال 1431 الموافق 26 سبتمبر 2010؛ طالعت نبأ وفاة العلامة الشيخ الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله، فترحمت عليه ودار في رأسي شريط حياة الشيخ مما عايشته بنفسي في حياتي من عمر هذا الرجل المجاهد الصادع بالحق، وتذكرت مواقفه الطيبة، وقضاياه التي ناصرها، ووقوفه في وجه تيارات الباطل وهو يدرك ثمن ذلك الوقوف، ومعاركه الفكرية التي قادها، وتذكرت آخر مرة صافحت عيناي وجهه رحمه الله منذ عدة أعوام أثناء صلاة الجنازة على الدكتور عبد الله شحاته رحمه الله، وأذكر عباراته المؤثرة يومها في كلمته المقتضبة في تأبين الدكتور عبد الله شحاته رحمه الله.

و لن أتعرض في مقامي هذا لذكر النواحي الشخصية في حياة الراحل لاعتقادي أن هذا ليس مقامه وأنه من الشهرة بمكان، ولإيماني بأن هذه الأمور لا تفيد مثل ما يفيد استلهام الدروس والعبر من حياة الرجل رحمه الله، كما إني لن أتعرض لسرد كل محطات حياته رغم خصوبتها كمادة تغري من يكتب عن مثله رحمه الله، ولكن سأذكر من حياته ما أراه مفيدا هذا الوقت بالذات من وجهة نظري.

ظل الشيخ رحمه الله لبضعة عشر عاما يلقي خطبة الجمعة بمسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة، بعد رحيل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وكانت خطبه متميزة عمليا وأسلوبه متميزا، وفي مادة خطبه عمق علمي يصعب أن يكون في خطب الجمعة، وأذكر أنني كنت أستغرب بعض خطبه التي يسرد فيها تواريخا ونقولا عن العلماء واستنتاجات وبراهين، وأقول سبحان الله، هذا مكانه درس ويكون بين يدي الرجل مراجعه ويتوفر له الوقت والدارس المتخصص، لا خطبة الجمعة التي يحضرها الناس جميعا لكونهم مكلفون جميعا بصلاة الجمعة، وليس طلبة العلم فحسب.

وكان الناس على اختلاف توجهاتهم يقصدون مسجد عمرو بن العاص ويكثر رواد المسجد، فقد كان الشيخ رحمه الله يشنف آذانهم بأبلغ العبارات، وأروع الكلمات، وكان ربما يتجاوز الخطوط الحمراء التي يمنع تجاوزها، وفي ذلك إمتاع للسامعين لأنهم يتعرفون كل جمعة على جديد، وليس كالخطب المكرورة التي تتعب الصدور وتعكر الصفو، ولا فائدة من سماعا اللهم إلا صلاة الفريضة ونيل الأجر والثواب فحسب.

وكانت للجمعة أيامها في مسجد عمرو بن العاص قيمة ومتعة لدرجة أن استمع إليه الرئيس مبارك وكان الشيخ يومها يكمل سلسلة ولم يغير الموضوع، وكانت في الاقتصاد الإسلامي، وفيها اقترح على الدولة اقتراحا لخروجها من أذمة المديونية، بأن تتولى الدولة جمع الزكاة من أصحاب الإيداعات في البنوك، وذكر الشيخ أن زكاة المودعين تبلغ خمسة مليار دولار، وأعجب الرئيس بالاقتراح وقال للشيخ بعد الصلاة: والله مبلغ حلو يا شيخ عبد الصبور. وكان شيخ الأزهر الأسبق الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شاهدا تلك الجمعة مع الرئيس، وصلى شيخ الأزهر الجمعة التي تليها – أو صلاة العيد – مع الرئيس، وسأل الشيخ جاد الحق رحمه الله الرئيس: ماذا فعلت يا ريس في اقتراح الشيخ عبد الصبور شاهين؟ – سمعت ذلك بنفسي من الشيخ عبد الصبور شاهين رحمه الله – فقال له الرئيس: سألت المستشارين والوزراء المختصين فنصحوا بعدم تنفيذ هذا الاقتراح.

وأنا هنا أذكر هذا القصة على وجه الخصوص لأدلل على فاعلية خطب الرجل وقوة تأثيرها لأعلى مستوى، لدرجة أن تصل اقتراحاته إلى رئيس الدولة.

ولكن الأيام لا تدوم وتم إيقاف الشيخ عن خطبة الجمعة بمسجد عمرو بن العاص، وعوضه الله بمسجد أقامه قريبا من منزله، استمر فيه على نفس النهج الذي كان عليه بمسجد عمرو بن العاص حتى لاقى ربه.

وأما في مجال التأليف فقد ترك نحو ثمانين كتابا، سمعت ذلك بنفسي منه، أقول ذلك لأن معظم الذين يذكرون مؤلفاته يسقطون عشرة منها، وعندما تتمعن في الخيط الذي يجمع مؤلفاته على اختلافها وتنوعها وثرائها تجده خيط (الفكر الإسلامي) فهو عاشق للغوص في الفكر الإسلامي، وما كـُتب مالك بن نبي التي ترجمها ، وعلى رأسها كتاب الظاهرة القرآنية، وكتاب الشيخ محمد عبد الله دراز دستور الأخلاق في القرآن، وأظن أن أصل هذا الكتاب رسالة الدكتوراه التي أعدها الشيخ دراز بالفرنسية، واستعصت عليه هو نفسه أن يترجمها للعربية، وقد سمع الشيخ عبد الصبور ذلك من ابن الشيخ محمد عبد الله دراز نقلا عن والده، أقول: هذه الكتب خير شاهد على حب الشيخ عبد الصبور شاهين للغوص في الفكر الإسلامي.

كما ترك تفسيرا للقرآن الكريم متمثلا في خطبة الجمعة التي واظب عليها نحو سبعين عاما! فهو يخطب الجمعة من سن الصغر، وكانت خطبه على نسق لا يكاد يتغير، في الخطبة الأولى يفسر آية أو أكثر أو يستكمل تفسير آية، وفي الخطبة الثانية يستعرض بعض القضايا المعاصرة أو الآنية ويعلق عليها.

كما حقق بعض الكتب في القراءات، وبعض العلوم الإسلامية واللغويات، وألف بعض الكتب التي لم يسبق إليها في اللغويات والصوتيات وغيرهما.

والشيخ على ما عرف عنه من صرامة وشدة في وجه الباطل كان رقيق القلب، طيب المعاشرة، وكان في حروبه ومعاركه مع العلمانيين في منتهى الإنصاف والعدل، وأشهرها معركته مع المدعو نصر حامد أبو زيد، فقد كان يكرر دائما: خطأته ولم أكفره. ففي حوار نشرته جريدة الدستور بتاريخ الأحد 3/ 1/ 2010م سئل رحمه الله: “هل اتهمتم في تقرير اللجنة العلمية الباحث الدكتور نصر أبو زيد بالكفر؟” فقال: “إطلاقا.. لم أتعرض في تقريري لعقيدة الباحث أو دينه، فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى ولا شأن لي به، ولا يمكن أن أورط نفسي في هذا الاتهام البشع…

وكان رحمه الله دائما يدعو الله أن يمد في عمره حتى يكمل تفسير القرآن على المنبر، وقد سمعت ذلك بنفسي ذات مرة.

وأما عن بعض كتبه أو آرائه التي خالفه فيها بعض العلماء، فالحق يقال أنه رجل يفكر جدا ويجتهد ويدرس قبل أن يتكلم، ولذلك كانت ردوده قوية قاطعة، ولذلك لم يرجع في شيء منها، ليس إلا لأنه يكتب عن اقتناع واجتهاد! رحمه الله.

تمت الصلاة على جنازة الشيخ عبد الصبور شاهين بعد صلاة الظهر اليوم الاثنين 19 شوال 1431 الموافق 27 سبتمبر 2010 بمسجد عمرو بن العاص في حضور مئات من محبيه وتلامذته وبعض الوجهاء وممثلي التيارات الإسلامية المختلفة.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon