الرَّحِـم… التي قطعناها!!.
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي

سمعت أحد شيباننا يلحّ على ربه في دعائه في السجود في صلاة الفجر معتذرا، يدعو بدعاء رقّ له قلبي حتى دمعت عيناي وتقطعت نفسي حسرة.

أعرفه منذ سنين، هو من رواد المسجد لا سيما صلاة الفجر، دائما ممتلئ حيوية وتفاءلا، وله محيا تعلوه ابتسامة غير مصطنعه، لكنه هذا اليوم على عكس ذلك، لمحته من الخلف وهو يركع ركعتي السنة، متثاقلا كأنه كبر ثلاثين سنة فجأة.

أقيمت الصلاة للفريضة فكنت في جواره، وما إن انطلق الإمام يتلو سورة السجدة، وقبيل سجدة التلاوة؛ سمعته يبكي، ولما سجدنا سجود التلاوة، سمعته لا يزيد في سجوده عن قوله: أبرأ إليك من قطع الرحم التي بيننا!، أبرأ إليك من الرحم التي قطعوها..لم أكن يا رب أنا السبب،… ويبكي. ثم سجد بنا الإمام سجدات الصلاة الأربع وهو يبكي ويدعو ويعتذر من قطع الرحم..

وأثناء تلك الدعوات التي يلهج بها هذا الشيخ المسنّ المكلوم، انتشرت أمام ناظريّ مئات من علامات الاستفهام، وارتسمت في قلبي صورة هذا الشيخ المسنّ، لما عساه يبكي وهو في هذا السن، ومن عساه يكون سببا في تلك القطيعة؟.

وفي آخر سجدة أجاب الرجل أسئلتي وقطع حيرتي؛ إنه يدعو على شقيقه.. إي والله شقيقه. يقول في دعائه عليه: اللهم عليك بفلان أخويا.. ذل أنفه، واكسر قلبه كما ذلني وكسر قلبي…

في صلاة الفجر يدعو في سجوده على شقيقه! وفي شهر رمضان! شهر التسامح والصفح والعفو كما تربينا في القرية صغارا على ذلك!.

نعم يدعو على شقيقه في صلاة الفجر وهو ساجد ويبكي… فقلت في نفسي كم مثل هؤلاء مقطوعة أرحامهم، وكم مثل هذا المكلوم جريح الخاطر، وتذكرت أول يوم في رمضان هذا العام – وكما تعودت من أكثر من خمسة عشر عاما – عندما اتصلت بأحد الأقارب، فوجدته حزينا وليس كما هي عادته، فسألته بعد مضي أسبوع عن سبب حزنه، فعرفت أنه بسبب قطيعة رحم مع شقيق له. قائلا لي: أشعر بغضب الله في هذه الأيام الطيبة المباركة وأنا وأخي لا يكلم أحدنا الآخر… إنها نفس المأساة، إنه نفس الجرح، ونفس المصيبة.

أذكر أني جلست مرات مع شقيقين متقاطعين من سنين، كل منهم ظاهره الصلاح، كل منهم يبدو عليه الخير وحسن التعامل مع الناس، كل منهم يشكو لي هجره لأخيه، وعندما أقرب وجهات النظر وأحاول قطع هذه القطيعة بينهم يعدد لي كل منهم عيوب صاحبه، ويعلو صوته ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، والذي نفسي بيده إن كاتب هذه السطور جلس مرة مع أحدهما من بعد العشاء حتى أذان الفجر يسمع منه عساه يجد راحة بعد أن يبث ما عنده، وقبل أن نقوم للصلاة، قبلت رأسه وقلت: سامح وتوكل على الله واصفح وكن أنت الأفضل… سامح..

سامــح أخاك إذا خلط منه الإساءة بالغلــط
وتجاف عن تأنيــبه إن زاغ يوما أو قسط
منذ الذي ما ساء قط؟ ومن له الحسنى فقـط؟

وكانت المفاجأة غير سارة. إنه لا يزال على نفس الحال، بل إنه أسوأ حالا عنه مما كان في أول الليل!
يزعم كاتب هذه السطور أن الشيطان تمكن منا في الإغراء بيننا، وقطع أوصالنا، وساعدته نفوسنا التي صارت تبرر لنا كل سلوك خطأ، وتكبر لنا كل فعل من الآخرين مهما حقر. ويزعم كذلك أننا نحتاج للتركيز على هذا الأمر من قبل الخطباء والوعاظ والكتّاب والمصلحين، والدعاة والمدرسين وأولي الأمر والمسئولين.

فاللّهم إنا نشكو إليك من كل رحم قُطعت، ومن كل وشيجة فُصلت، ومن كل هوىً اتُّبِع، ومن كل أخ هُجر، ومن كل كلمة ساعدت على شيء من ذلك، وأصلح اللهم أحوالنا وفكّ اللهم رهاننا. والحمد لله أولا وآخرا.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon