عندما انتقلت للعيش في منطقة العجمي هانوفيل بالإسكندرية في عام 1992 كان الناس يتناقلون أخبارا عن شيخ مفوّه وخطيب بارع بمسجد المدينة بالبيطاش بالعجمي التابع لشركة الحديد والصلب بالدخيلة، اسمه الشيخ توفيق سرور. وتاقت نفسي للقائه وسماعه غير أن تكليفي بخطبة الجمعة بمسجد السلف الصالح بالهانوفيل كان مانعا آنذاك لسماع خطبه.

إلى أن عملت بشركة النصر للمسبوكات بأم زغيو عام 1995 ودُعي الشيخ لإلقاء محاضرة بمسجد الشركة بعد صلاة الظهر بمناسبة دينية لا أذكرها الآن، وكان لقائي الأول بالشيخ بالمسجد قبيل الصلاة، فاغتنمت الفرصة وسلمت وصافحت فضيلته وسألته في مسألة فقهية عويصة. وكنت وقتها مرتديا بزة العمل الخاصة بمهندسي الشركة؛ فطفق يلتفت إلي التفاتة المتعجب، ولم أفهم مغزى ذلك التعجب إلا فيما بعد في أول لقاء به بعدها بأسبوع، إذ كان بالشركة مهندس آخر له نفس اسمي ذو ميول علمانية، وكان عند الشيخ خبر بذلك! وهو ما عرفته من الشيخ في أول لقاء بمسجد المدينة إذ صارحني بكلامه متوهما أني ذاك المهندس… فصحّحت له المعلومة، فاطمأن واغتبط بذلك.

شاء الله سبحانه أن أترك الخطابة في مسجد السلف الصالح فترة بسبب بعض المشاكل بإدارة المسجد، نائيا بنفسي عن مشاكسات لا أحب خوض غمارها، فأُتيحت لي فرصة سماع خطب الشيخ فترة من أحسن فترات عمري في التلقي، حيث كان في خطبه عمق في المعاني والألفاظ والترتيب و… وهو ما أتاح لي أن انتقل نقلة نوعية في تفكيري وخطبي وكتاباتي و…. حتى حياتي الأسرية!…

تعمقت صلتي بالشيخ، وكنت أذهب إليه أسبوعيا في مكتبه بمحطة مصر خلف السنترال… فوجدت في الشيخ بعد أن تعمقت علاقتنا نموذجا فريدا من الأريحية والتلقائية وعمق المعاني وبعد النظر والفهم الصحيح للعديد من المعاني سواء في الحياة أو الإسلام.

وجدت في الشيخ عمليا بلا تدريس ولا كلام نظري؛ عفة النفس وطهارة اليد وحلو المعشر ونظافة الجسم وحسن الهندام ولطف اللقاء ورقة الطبع وسرعة الدمعة وإعطاء الناس حقوقهم واحترامهم وتقدير مقامهم… وكم من قصة قصها علي كانت نهايتها أن تخنقه العبرة وتنحدر دموعه على خديه رحمة الله.

علمني الشيخ كيف أوثق علاقتي بزوجتي وأولادي وعائلتي؛ أبي وأمي وإخوتي وأخواتي، وأقاربي وأصهاري.. وعلمني كيف أتعامل مع الكبراء وعامة الناس وأدنى طبقات الناس و… باحترام ولطف وأدب.

خلاصة القول… وجدت في الرجل رحمه الله طرازا جديدا وأسلوبا منفتحا على الحياة لم يكن لي به عهد في سابق عمري قبل لقائه رحمه الله.

وكم ناقشنا سويا – بعد أن ينتهي عمله بمكتبه ويتوقف مجيء الناس إليه – مسائل علمية دقيقة، وكم تحمل مني جرأتي واندفاعي، وكم شجعني وكم ضحك وسر وجهه الكريم من إلحاحي حتى أستوعب… سواء مسألة بلاغية أو تفسير أو فقه أو غيره… وكان دائما رحمه الله يقول لي: انت يا واد يا شيخ……. يا مهندس…… انت مالك ومال الهندسة بس!؟..

ولما عرف رغبتي في العمل بالدعوة في إحدى الدول الأوربية تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي وإصراري على ذلك في حوالي عام 1996، كتب لصديقه الشيخ أبو بكر جابر الجزائري رحمه الله الواعظ بالمسجد النبوي الشريف. ليكلم لي الشيخُ الجزائري الشيخَ عبد الله العبيد أمين عام رابطة العالم الإسلامي وقتها في شأني… ووقتها عرفت أمرين؛ جمال خط الشيخ، وكرهه للكتابة وعدم انطلاقه فيها؛ حيث ظل حوالي أسبوعين يكتب في الخطاب الذي قال لي عنه أنه سيرسله للشيخ الجزائري، وهذا ما حرمنا من أن تكون للشيخ مؤلفات نافعة.

تأكد لي أمر عدم حبه لمعالجة الكتابة عندما كتب لي مقدمة لكتاب (ضباب على المنبر) التي تجاوزت الشهر ولم يكملها، فأملاني باقي ما كان يريد أن يكتبه فيها، فكتبته إملاء منه علي رحمه الله….

فاتحته رحمه الله في أن يتم تفريغ خطبه ودروسه وتحويلها إلى مؤلفات مقروءة يفيد منها الناس، فقال لي عندك الأستاذ/ مدحت عثمان. يسجل لي كل الخطب… وفعلا أخذت منه مجموعة من الأشرطة… وحاولنا عدة مرات في المضي قدما لكن – للأسف – توقف الموضوع ولم يتم فيه شيئ اللهم إلا محاولات متواضعة من شخصي الضعيف ومن الدكتور أشرف شلبي أو الأستاذ مدحت عثمان…. إلى أن انتقلت للقاهرة في منتصف عام 1998.

استمرت علاقتي بالشيخ رحمه الله وكنت كلما نزلت الإسكندرية أمرّ عليه في المكتب لأنعم بقربه، واجدا عنده معان وأحاسيس ومشاعر قلما يجود بها الزمان، في حديث أبوي علمي مفعم بالود والتصافي والأريحية، وكنت أجد في حديثنا بعد أن يترك المكتب وأنطلق معه بالسيارة مقلا إياه لشقته بمحرم بك متعة لا توصف، ولربما مضت أكثر من ساعة في السيارة متوقفا تحت شقته، ولا يمل من ذلك، وكلما أشفقت عليه أو استحيت منه مستأذنا؛ قال لي: استنه لسه بدري… هو انت بتيجي إلا بعد كم شهر؟…

كان مما يحدثني عنه كثيرا مجاورته للرسول صلى الله عليه وسلم فترة من عمره، وكان وقتها يدرّس لطلبة الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان قلما ذكر لي تلك الأيام وهذه المجاورة إلا بكى، ولم أفهم معنى الأدب في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم عمليا إلا من حديث الشيخ رحمه الله لي عن هذه المجاورة وتلك المشاعر والأحاسيس.

كما كان يحدثني كتيرا رحمه الله عن فترة إعارته بالجزائر مع الشيخ الشعراوي رحمه الله، وعن هذه الأمسيات والندوات والمحاضرات، وكيف كان الشيخ الشعراوي يختبر نحته للمعاني، ويضرب به المثل في ذلك، وقد رأيت حفاوة الشيخ الشعراوي بالشيخ رحمه الله في مسجد المدينة الذي كان يخطب فيه سنين طويلة، ورأيت حفاوة الشيخ رحمه الله بالشيخ الشعراوي رحمه الله بعيني في أوخر عمر الشيخ الشعراوي في عام 1997 تقريبا.

كان من نصائح الشيخ لي في الحياة أن أقتطع جزءً من الدخل الشهري أضعه في حساب خاص، وكان يلح علي في ذلك إلى أن وثق بأني فعلت؛ سكت عني.

وكان رحمه الله ينصحني بالاستمرار في الكتابة والتأليف مع كوني أستحي أن أريه شيئا مما أكتب، فجرأني على أن أعرض عليه كل ما أكتب، وكان أول من أرسل إليه نسخا من الكتب بعد طباعتها، وكان يتجاوز عما يراه من تقصير، ويقول لي: لعل الظروف اضطرتك لكذا… فكنت أتدارك ما يلفت نظري إليه فيما بعد، أو في طبعات تالية.

وقد ذكرت الشيخ رحمه الله وتشجيعه للعبد الفقير في بداية مشوار الحياة في مقال سنة 2010 بعنوان (المشجعون والمثبطون ليسوا سواء) قلت فيه: (…. كتبت بحثا في موضوع قُتل بحثا، ولما كان موضوع البحث هو خطبة الجمعة ورسالة المنابر، فقد دفعت البحث لفضيلة الشيخ توفيق سرور وفّقه الله وأحسن خاتمته، الذي كنت أحسبه أيامها – وما زلت – خطيب العصر وأديب المنبر، وكم تعلمت منه، جزاه الله خيرا.

رغم انشغاله ومعرفتي أنه لا يحب الكتابة، وأقول أنه لو كان محبا للكتابة لكانت كتبه وكتاباته اليوم قد حازت الصيت الأكبر والشهرة العريضة، وانتشرت بين الناس؛ لحلاوة ألفاظه وحسن اختياراته وتراكيب جمله، ومن سمعه عرف ذلك.

أقول رغم ذلك عرضت على فضيلته البحث، فقرأه وأثني عليه وعلى شخصي الضعيف، وكتب مقدمة للكتاب، كتب بعضها و أملاني بقيتها! إلم أقل أنه لا يحب الكتابة؟!

كتب مقدمة كانت سببا في انتشار الكتاب وطباعته عدة مرات، فجزاه الله عني خيرا، ومن الطُّرف التي لا أنساها أن أحد الناشرين للكتاب قال لي: سأنشر الكتاب لأجل هذه المقدمة فقط!…) فرحمه الله وجزاه عني خيرا.

ومن نوادر نظراته التربوية أني في مرة شكوت له أمرا أسريا خاصا، في فترة مبكرة في حدود عام 1996 فكانت نصيحته هكذا: انت آخر مرة غديتهم بره أيمته!؟… فاستغربت من جوابه الذي جعله سؤالا لي، لكني أدركت قيمة سؤاله بعد ذلك.

كما كان يسألني دائما في فترة كنت فيها متعسرا ماديا عن أحوالي المادية ويجهز لي بين الحين والآخر مبلغا على سبيل القرض إلى أن تنفرج الأمور، وبعض هذه المبالغ لم أسددها لفضيلته إلا بعد عام 2002 … أقول ذلك الآن من باب نشر الخير الذي كان الشيخ يتاجر به مع ربه، وكان يقول لي: لا تعرّف أحدا بذلك.

وفي عام 2003 حدث لي حادث سيارة شديد، أدخلت حماتي على أثره لمستشفى قريبا من بيته بمحرم بك، فجاءني مسرعا بالمستشفى ومعه مبلغا كبيرا وقتها، وأصر على أن آخذه حتى لو لم أحتج إليه، وقال: خليه معاك لحد ما ترجع للقاهرة.

وأذكر أن أحد جيراني بالإسكندرية أصر على أن آتي من القاهرة لأحضر عرس ابنته ومعي الشيخ رحمه الله، فكلمت الشيخ يومها فقال لي: عدي خدني يا سيدي، انت فين؟ قلت: انا في المكان الفلاني. فقال: أنا جنبك. وهو وقتها تجاوز الخامسة والسبعين من عمره!… وذهبنا للعرس… وهناك سمعت من الشيخ رحمه الله معان من أرقى وأنفع ما يقال للمتزوجين!… وكانت ليلة من أجمل ليال العمر… فرحمه الله ورفع منزلته.

وفي جنازة حماتي رحمها الله اتصلت به ليشهد الصلاة معنا عليها فجاء مسرعا… وطلب منه حماي رحمه الله أن يصلي عليها، فصلى ووعظنا بمعان نُحتت في الأذهان نحتا، ومشى معنا حتى القبر… وهو في هذه السنّ رحمه الله.

ألمت بالشيخ رحمه الله في السنوات الأخيرة عدة وعكات صحية، قام منها شاكرا حامدا صامدا مواجها للتعب بنفس راضية وروح مطمئنة للقضاء والقدر، وآخر ما ألم به ما أصاب حنجرته التي طالما أسمع بها سامعيه ومحبيه الكلمات الطيبة والمعاني الراقية والألفاظ البليغة… وكان أيامها – وهي من شهور فقط – يقول لي في المكالمة الهاتفية: الحمد لله دا انا تمام. بصوت مبحوح متقطع أسمعه بالكاد!.

كنت كلما اتصلت به في السنوات الأخيرة، نتبادل الكلام فيما تجود به الأحداث وقتها، ولم يكن معقدا لا في تناوله للأمور ولا في نظرته للحياة، رغم ما آتاه الله من الفهم العميق في سنن الله الكونية، والمعاني الشرعية، ومقاصد التشريع.

وكان آخر هذه الاتصالات الهاتفية يوم عرفة الماضي، فقال لي: العيد بقى عيدين، هو انت مش هتعقل بقى وتيجي اسكندرية عشان أشوفك قبل ما أموت!… ولم أعقل وقتها ما يقول، ويا ليتني عقلت ومشيت إليه على قدمي… ولم أعقل إلا عندما أُبلغت بخبر وفاته الأليم وأنا خارج مصر منذ أسبوعين.

ظل الشيخ رحمه الله نشيطا حتى آخر لحظة في عمره، فقد حدثني الأستاذ مدحت عثمان – الوفي للشيخ رحمه الله وكان الشيخ يقول لي هذه الكلمة عنه دائما أنه وفي – حدثني أنه هاتف الشيخ قبل موته بساعتين أو ثلاثة وكان في نشاطه العادي، وكان يمارس حياته الطبيعية ليلة وفاته، إلى أن رجع منزله في ساعة متأخرة، ليلة الاربعاء ٢٣ ١٠ ٢٠١٣، وأتته منيته بعد عودته لمنزله مباشرة لدرجة أن لم يخلع عنه ثوبه الذي خرج به ليلتها رحمه الله.

الحديث عن فضيلة الشيخ توفيق سرور رحمه الله، لا يسعفه مقال ولا يحتويه نص كهذا، ولئن بسط الله في العمر، وجعل في الأقدار فسحة، ومنّ الكريم سبحانه ووفق، لأبسطن الكلام عن الشيخ في كتاب يليق بقدره، وجهده وعلمه ودعوته وكفاحه حتى آخر لحظة في حياته رحمه الله.

اللهم ارحمه واغفر له وأعل مكانته وارفع منزلته وتوّجه بتاج الكرامة؛ جزاء ما قدم لدينه ولأمته. آمين.

كتبه/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي.

القاهرة. في: ٢٣ ١١ ٢٠١٣.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon