المثبطون والمشجعون… ليسوا سواءً
بقلم / ربيع عبد الرؤوف الزواوي

فعلا ليسوا سواءً…
فكم من أناسٍ كانوا سببا في خير كثير لأناس آخرين بسبب تشجيعهم ومساندتهم معنويا، وكم من أناسٍ كانوا سببا في تضييع خير كثير على أناس كثيرين بسبب تثبيطهم، وتدميرهم معنويا.
ولن أسرد شيئا مما تواتر من أخبار وحكايات بهذا الصدد، سواء في كتب التاريخ أو التراجم، أو غير ذلك. وإنما سأكتفي بما كان منها معي شخصيا، سواء تشجيعا أو تثبيطا، وسأستر أسماء وألقاب المثبطين، بينما أذكر أسماء بعض المشجعين والمساندين، جزاهم الله خيرا.


أذكر منذ ما يزيد عن عشرين عاما وكنت وقتها شابا لم أتجاوز الخامسة والعشرين من عمري، وكان ذلك في أوائل التسعينات من القرن الماضي، أن كتبت كتابا صغير الحجم في موضوع شائك، لا توجد فيه مراجع، ولا يوجد شخص بحثه قبلي، وما إن استوى بين يدي الكتاب ونضجت في ذهني تقسيماته، وذهبت به لأحد الناشرين، فطار به فرحا، واقترح علي أن يكتب أحد البارزين المشاهير مقدمة للكتاب، رغبة منه في أن يلقى الكتاب رواجا، ويقبل عليه القرّاء الأغمار دون نظر أو حُكم، وإنما ثقة منهم في اسم كاتب المقدمة.

والحقيقة أني لم أكن يومها راغبا في هذا الأمر رغم حاجتي لذلك، فأنا كاتب مغمور، وشاب صغير، ونكرة من النكرات، وهذه المقدمة ستعطي كتابي قوة وثقة لدى القارئ، ولا يفوتني هنا أن أذكر أني ما زلت على نفس الرأي حتى يومي هذا؛ إيمانا مني في أن الكتاب أو المقال أو غيره؛ قيمته في نفسه وما يحمل من أفكار وحقائق، وليس في أن يكتب له أحد المشاهير مقدمة.

تفاجأت – كما تفاجأ الناشر – بردة فعل عنيفة من ذلك الإنسان سامحه الله، إذ كتب مقدمة حزينة، منتقدا بعض الهنات البسيطة في الكتاب، مضخما لها، ولم ينظر للموضوع نظرة منصفة، ولا ما في البحث من فوائد وحقائق، حتى غلب على ظنينا – أنا والناشر – أنه غير منصف أو حاقد لسبق العبد الضعيف لهذا الأمر!، وقال لي الناشر: المفروض لو فيه أخطاء ينبهك على الخطأ بينك وبينه كي تصححه إن اقتنعت. والحقيقة أنه لم يكن يعرف – على شهرته – شيئا مما في الكتاب!

أحبطني موقف ذلك الإنسان وأثر في نفسي وقتها أثرا شديدا، وكاد أن يكون سببا في شر كنت أفكر فيه، لولا رعاية الله التي صرفته عني!
على عكس ذلك تماما حدث معي بعدها بسبعة أعوام؛ حيث كتبت بحثا في موضوع قُتل بحثا، ولما كان موضوع البحث هو خطبة الجمعة ورسالة المنابر، فدفعت البحث لفضيلة الشيخ توفيق سرور وفّقه الله وأحسن خاتمته، الذي كنت أحسبه أيامها – وما زلت – خطيب العصر وأديب المنبر، وكم تعلمت منه، جزاه الله خيرا.

رغم انشغاله ومعرفتي أنه لا يحب الكتابة، وأقول أنه لو كان محبا للكتابة لكانت كتبه وكتاباته اليوم قد حازت الصيت الأكبر والشهرة العريضة، وانتشرت بين الناس؛ لحلاوة ألفاظه وحسن اختياراته وتراكيب جمله، ومن سمعه عرف ذلك.

أقول رغم ذلك عرضت على فضيلته البحث، فقرأه وأثني عليه وعلى شخصي الضعيف، وكتب مقدمة للكتاب، كتب بعضها و أملاني بقيتها! إلم أقل أنه لا يحب الكتابة؟!
كتب مقدمة كانت سببا في انتشار الكتاب وطباعته عدة مرات، فجزاه الله عني خيرا، ومن الطُّرف التي لا أنساها أن أحد الناشرين للكتاب قال لي: سأنشر الكتاب لأجل هذه المقدمة فقط!
فكم بين الرجلين من فرق!

وأذكر أني في بدايات حياتي ذهبت ببعض كتبي التي كانت لم تنشر بعد لأحد الناشرين في إحدى الدول العربية، فاستقبلني استقبالا باهتا سامحه الله، وعرفت أنه لا ينشر لأي أحد، وهذا حقه، وذكر لي أنه لا يدخل مكتبته أي كتب، بل لابد أن يكون الكاتب كذا وكذا!

وبعد وقت من التجول في أرجاء مكتبته الكبيرة وجدت بعض كتبي على الأرفف، فكلمته في ذلك لعله يقبلني، فبُهت، ثم قال: نعم دار……….. تطبع لمن هبّ ودبّ!!! كذا – والله – بنفس اللفظ! يقصد الدار التي نشرت لي كتبي التي يبيعها هو ويتكسب منها!…
كلمة مثل هذه جديرة بأن تقتل إنسانا في بدايات حياته، يحاول جاهدا أن يقف على رجليه…

وأذكر أني أيام حصول مصر على صفر في زيورخ؛ عندما كانت (الفيفا) تختار دولة أفريقية من ثلاثة دول هي مصر وجنوب أفريقيا والمغرب؛ لتنظم مونديال 2010. وكان ذلك عام 2004، فكتبت قصيدة شعرية متواضعة أسخر فيها من هذا الصفر، أسميتها صفر المونديال، وكنت أخفيها، ليقيني أني غير متقن لقريض الشعر رغم حبي الشديد له، ورغم اطلاعي على الكثير منه في كتب الأدب، وحفظ الكثير منه أيضا.

وبعدها بأيام تشرفت بلقاء العلامة الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي الكاتب المعروف، والشاعر المفلق، ورئيس تحرير مجلة الأزهر، ومربي الأجيال، وأستاذ اللغة العربية المشهور، وصاحب التصانيف الشهيرة، والكتب ذائعة الصيت.

وكان قد رتّب لي هذا اللقاء به فضيلة الشيخ السيد وفا أبو عجّور حفظه الله، الأمين العام الأسبق لمجمع البحوث الإسلامية، فالتقيت به فوجدت جبلا أشم وعلما وأدبا وتواضعا وتلقائية و…
وبعد اللقاء الجميل الحافل بالعلم، تشرفت بتوصيله بسيارتي من مجمع البحوث الإسلامية بمدينة نصر إلى القُللي، وفي الطريق تناولنا بعض الأبيات الشعرية، وأسمعني دررا، وأصر على أن يسمع مني، وهو من هو، فاستحييت، ولما أصر أسمعته بعض الأبيات من (صفر المونديال) ولما سكتُّ حياء منه، أصر أن يسمعها لآخرها، وظل يكرر: الله الله. يا سلام! يا سلام!

ثم لما قلت له أني لم أدرس العروض، وليس عندي دراية كافية بالنظم والوزن والرَّوي وغير ذلك من فنون الصنعة.. قال لي: اسمع… أنت مهندس والشعر هندسة، قل يا ابني قل ولا تحرج… نعلمهم في الكلية سنين طويلة هذه الأشياء ولا ينظم واحد منهم بيتا واحدا مثل أبياتك…

كنت أعرف أنه يشجعني، ولكن كانت كلماته تتدفق على سمعي مجلية حجب الخوف، كاشفة لسحب الضباب المخيفة التي تسكتني…

كنت قرأت أن الأديب الكبير عباس محمود العقاد كانت تأتيه الأبيات الجميلة من فحول الشعراء وقتها، كي يعتمدها للنشر؛ فيكتب عليها: تحال إلى لجنة النثر!!! وكان هذا الأمر يخيفني جدا، ويمنعني من نشر بيت واحد.

فجزى الله كل من شجع وهدى الله كل من ثبّط.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon