خلّوا بين الحُجَّاج وربهم يرحمكم الله
بقلم/ ربيع عبد الرءوف الزواوي

قال لي صاحبي مبتسما: المشايخ كلهم كانوا في الحج هذا العام! قلت: وكيف عرفت؟ قال: الفضائيات في فترة الحج تكرر البرامج المسجلة ولا يوجد برامج مباشرة للمشايخ! ثم قال: إنهم يذهبون إلى الحج كل عام، إنهم……. أنهيت الحوار القصير بحيلة ما؛ عندما وجدته ذهب بنا لزوايا لا داعي للخوض فيها.

انتهى الحوار ورجعت إلى نفسي متأملا فوجدت الأمر يحتاج إلى ترشيد وإلى نقد بناء، وليس إلى حوار الطرشان أو تجريح الأشخاص وانتقادهم ليس إلا.

ستقول لي الآن حتما أيها القارئ الكريم: وما الغريب في ذهاب المشايخ والدعاة والوعاظ إلى الحج كل عام؟ إنهم يعظون الناس ويذكرونهم ويعلمونهم مناسك حجهم، و….. و…. وأقول: هذا حق ولا إشكال فيه. ستقول: فما تنقم عليهم؟ أقول: هذا ما سأوضحه في هذا المقام؟

أذكر جيدا – كأنه اليوم – في عام 1418/ 1998 عندما وفقني الله جل وعلا لحج بيته وأداء فريضة الحج، أن مشرف الرحلة – جزاه الله خيرا – كان حريصا جدا على تصحيح حج من معه، لدرجة أنه أرهق الحجاج معنا بكثرة الدروس والوعظ والتعليم، وكان يعطيني مكبر الصوت من حين لآخر، طالبا الكلام مني حول موضوع يحدده معي سلفا.

حتى ليلة المبيت بمزدلفة – التي تكون بعد مجهود كبير يوم عرفة – المشروع فيها أن يصلي الحاج المغرب والعشاء جمع تأخير ثم ينام للفجر. أقول: ينام! يعني لا يقوم الليل فيها. وقد قلت للناس ذلك ليلتها.. فسألني واحد ممن كان معنا: يعني النوم الليلة دي يا عم الحاج أفضل من قيام الليل؟ قلت له: نعم. فاضجع ونام للفجر.

وفي منى بالذات ألحّ مشرف الرحلة علي إلحاحا كبيرا لشرح المناسك بالتفصيل وكان يشغل الناس كثيرا بهذه الدروس، فلما رأيت الأمر خرج بنا عن الحد اللائق في مثل هذه الأيام تلطفت قائلا له: إن الله جعل المبيت بمنى هذه الليالي للراحة وللأكل والشرب وذكر الله وليس لأمر آخر… خل الناس يستريحون… خل بين الناس وربهم. دعهم يأنسون بربهم. لا تشغلهم بنا.. فدمعت عيناه واقتنع وسكت عنهم وقال: طيب الذي عنده سؤال فقط تتكلم معه.

وهكذا كثير من الشركات السياحية لاسيما التي تتق الله في الحجاج وتحرص على تعليمهم مناسك الحج، يجعلون هذا التعليم في الحج وليس قبله، فيقعون في إشغال الناس بأمور أخرى غير مقاصد الحج، متذرعين بالدعوة إلى الله وتعليم الناس وهو لا شك مطلب شريف.

وبعض الشركات تعلن صراحة: (الحج هذا العام مع الشيخ الفلاني)! وهذا لا شيء فيه ولكن نؤتى هنا من الزاوية التي أردت أن ننتبه لها وهي تعلق القلوب بالأشخاص وليس بالله جل وعلا.

وبعض القنوات الفضائية تدفعهم الرغبة في عمل برامج في الحج من أرض الحج وينقلونها على الهواء مباشرة، لملء خريطة البث، ولكسب مشاهدين، أو لصالح معلنين معينين أو… أو… فيأتون بالمشايخ والدعاة المشاهير ويلتف الناس حولهم وينشغلون بهم (أقول بهم) عن ذكر الله وامتلاء قلوبهم إجلالا وتعظيما له وحده جل وعلا.

لاحظت خلال السنوات الأخيرة عددا كبيرا من الحجاج يحدثك بعد عودته من الحج عن حجه مع الشيخ الفلاني أو المشهور العلاني، ولا يحدثك عن بيت الله أو المناسك أو عن مشاعره وأحاسيسه من تعظيم الشعائر التي قررتها سورة الحج عند الحديث عن الحج.

في حين أتذكر أن أباءنا وجيلهم فيما مضى رغم ضيق اليد أيامها وشدة الحج كان بعضهم يبدأ حديثه بالدموع أو يبكي أثناء حديثه كلما تذكر بعض المواقف في الطواف أو في المناسك عامة.

ومن رجع للخلف أكثر واطلع على ما سطره بعض من كانوا يسجلون رحلاتهم للحج كتابة يدرك المعاني التي يطوف حولها مقالنا هذا.

جعل الله الكعبة البيت الحرام رمزا للتوحيد وشرع الحج إليه تعظيما لهذه الكعبة، التي يظل المسلم يصلي إليها ويجعلها قبلة له في صلاته ودعائه حياته كلها.

والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفه والمبيت بمزدلفة ومنى و…. إنما جُعل لذكر الله تعالى، فلا يُذكر في الحج إلا الله (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) فلا يُعظم في الحج سوى الله، ولا يطاف إلا بالكعبة، ولا تمتلأ القلوب إجلالا إلا لله.

والحج ليس مكانا ولا زمانا للوعظ والتعليم، وتعلم المناسك يكون قبل السفر إليه، وهذا ما تدعوا إليه الوزارات المعنية بحج الناس ولكن هيهات.

هؤلاء الدعاة والوعاظ الذين يراهم الناس في الفضائيات ليلا ونهارا، إذا ذهبوا إلى الحج للوعظ والتعليم تعلق الناس بهم والتفوا حولهم وانشغلوا بهم، عن أكبر مقاصد الحج، وهو تعظيم شعائر الله.

على كل حال… فهذه خاطرة كتبتها تذكيرا وإرشادا، وليس تبكيتا أو انتقادا. فإني والله كنت أغتاظ أن أرى مُعظّما عند الكعبة غير الله، سواء كان ملكا أو رئيسا أو وزيرا.. أو حتى شيخا يهتم به طلبة العلم. صونا لجناب التوحيد وتعظيما لشعائر الله.

في عتقادي أننا انشغلنا إلى حد ما بالكلمات عن المعاني وبالاشباح عن الأرواح، وتعلمنا الأعمال فقها ولم نستشعرها حسا.

في أواخر القرن الخامس الهجري رأي أبو حامد الغزالي رحمه الله أن الناس قد أماتوا علوم الدين! عندما يدرسون كلام الفقهاء – في كتبهم ويسمعونه في دروسهم – لمصطلحات جافة لا تأتي بمقاصد الشريعة؛ فمثلا عقد الزواج الذي هو ميثاق غليظ والزواج الذي هو سكينة وآية من آيات الله في خلقه ومن أفضل نعمه و… و….. هو عند الفقهاء: عقد تمليك منفعة بضع الزوجة…. فقتلوا روح هذه العلاقة السامية. وقس على ذلك… فألّف كتابه الشهير: (إحياء علوم الدين) ثورة منه لتصحيح ما أصاب المعاني في العبادات من جفاف وشكليات، ودعوة منه لإحياء علوم الدين، يقصد ضرورة الجمع بين القلب والعقل في إدراك معنى العبادة واكتشاف أبعادها ومضمونها ومقاصدها….

ستقول لي: أتريد أن لا يتعلم الناس مناسكهم ولا…… ولا…… قطعا لا اقصد ذلك ولا أرتضيه. التعليم يكون قبل الحج، ويكون في الحج بقدر يسير أو حسب الحاجة… ولكن الوضع تجاوز الحد اللائق… نسأل الله صلاح الحال والنيات.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon