دع الناقة…
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي

بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزاحم عليه الناس في عرفة وهو على ناقته؛ إذ أقبل أعرابي من قيس، فتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم، فمسك حبل الناقة ومنعها من السير، فقال بعض الصحابة للرجل إليك عنه. أي دعه يمضي… لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: دعوا الرجل.

يقول الرجل: فما تغير علي… وقال: ماذا تريد؟… فقال الرجل: يا رسول الله… شيئان أريد أن أسألك عنهما؛ أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟

يقول الرجل: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ثم نظر في أصحابه… فقال: لقد وفق إلى الخير… ثم أقبل علي بوجهه فقال: لئن كنت أوجزت المقالة، لقد أعظمت وطولت… أعد سؤالك… ماذا قلت؟

قال الرجل: قلت: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة ونجوت من النار.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاعقل عني… اعبد الله وحده، ولا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان، وصل رحمك).


قال الرجل: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه شيئا.

فقال صلى الله عليه وسلم: لقد استوفيت… دع الناقة.

فترك الرجل الناقة وانصرف…

فلما أدبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.

هذه القصة الرائعة – التي ثبتت في الصحيحين، وقد قصصتها عليك بالمعنى مجمعا إياها من روايات كثيرة – فيها من الفوائد والمنافع الشيء الكثير… فاشدد يديك بها… وتأملها… وانتفع بها…

ففي صحيح مسلم رحمه الله… والذي رواها عن أبي أيوب وأبي هريرة رضي الله عنهما بألفاظ مختلفة تصب كلها فيما أثبته أعلاه.

عن أبي أيوب رضي الله عنه أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها. ثم قال يا رسول الله: أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال فكف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نظر في أصحابه ثم قال: (لقد وفق) أو (لقد هدي).قال: كيف قلت؟ قال: فأعاد.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة).

فلما أدبر الرجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن تمسك بما أمر به دخل الجنة).

وفي مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا).

وأسجل هنا فوائد مهمة منها:
– لم يذكر الحج إما ﻷن الرجل قد حج معه… أو أن القصة كانت في غير الحج قبل أن يفرض الحج… أو أن الرسول ذكر الحج واختصره الرواة… والذي أراه أن الرسول لم يذكره لأن الرجل كان واقفا معه في عرفة.

– لم يذكر الصوم في بعض الروايات وذكر في بعضها… ولعله من تصرف الرواة.


سماحة وحلم الرسول صلى الله عليه وسلم وصبره على حبس الأعرابي لناقته عن مواصلة سيرها… واكتفائه بلفت نظر الرجل في النهاية بعبارة وجيزة وجميلة؛ (دع الناقة) ولم يقل: دعني أو كفاك أو ما شابه…

– قوله: ثم نظر في أصحابه… فيما يبدو لي أن (نظر في) تختلف عن (نظر إلى) فالرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى أفراد الصحابة رضي الله عنهم واحدا واحدا… وليس لمجموعهم نظرة سطحية…

وتعبيره بـ(ثم) وليس الفاء مثلا؛ تدل على التراخي… وأنه سكت سكتة لطيفة ونظر فيهم بعد أن نظر إلى السماء؛ لينقلهم من الأرض إلى السماء ومن الثرى إلى الثريا ومن الناقة وخطامها إلى الآخرة وسعتها…. فاللهم صل وسلم وبارك عليه.

– قوله: ثم أقبل علي بوجهه… فيه اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجل، وإقباله عليه وهذا من أدب الحديث وحلو التحاور.

قوله صلى الله عليه وسلم: (… كيف قلت؟) للفت انتباه من لم يسمع سؤال الرجل من أصحابه؛ ليسمعه من جديد، ليستفيد بالجواب… وذلك لأهمية السؤال والجواب… والله أعلم.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon