فلما استيأسوا منه خلصوا نجيّا
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي

على اختصار كلماتها ووجازتها تصور – بأبدع ما يكون الوصف – كلمتان في الآية الكريمة رقم 80 من سورة (يوسف) عليه السلام مشهد انصراف إخوة يوسف من حضرة عزيز مصر ومفوضها من قبل الملك لإدارتها في أزمتها الاقتصادية؛ يوسف عليه السلام، في قضية اتهامهم بالسرقة وإصدار الحكم فورا بالبينة والبرهان…

(… فلما “استيأسوا” منه “خلصوا نجيا…)…
ولماذا استيأسوا؟…
لماذا استيأسوا من كرم العزيز يوسف عليه السلام… رغم معرفتهم بكرمه وحسن جواره… فقد سبق منه إكرامهم والقيام على أمرهم بنفسه…

لماذا استيأسوا منه؟…


فيما يبدو… والله أعلم… لأنه كان قد جعلهم قضاة على أنفسهم في هذا الحكم الذي قضوا فيه ببقاء أخيهم لدى الملك مأسورا في سرقته…

سبحان القائل: (كذلك كدنا ليوسف)… فبعد أن وضع يوسف عليه السلام السقاية في رحل أخيه باتفاق بينهما… أمر المنادي أن ينادي عليهم: إنكم سارقون… سرقتم صواع الملك…

وبعد جوابهم القاطع وهم فيه صادقون: (لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين)… قيل لهم؛ فماذا لو وجدناه عندكم؟ بماذا تحكمون في شرعتكم على السارق؟…

ويوسف عليه السلام يعلم أن في شريعة ابيه في كنعان أن يؤخذ السارق بسرقته؛ أي يسترق…
فقالوا في ثقة: (مَن وُجِد في رحله فهو جزاؤه)… يعني يجزى السارق بأخذه أسيرا خادما عند من سرقه… كذلك نجزي السارقين عندنا في كنعان…

ولكن بعد لحظات استخرجت السقاية من رحل أخيهم بنيامين… فاستشاطوا غضبا شاتمين اياه… متذكرين أخاهم يوسف وهو صغير الذي وقع بسبب صنيعهم وكيدهم له… في مثل هذا الأمر… فقالوا: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)!…

يعني كما نقول نحن في أيامنا هذه: مش غريبة عليك يا ابن راحيل؛ فاخوك قد سرق من قبل…

فأسرها يوسف في نفسه ولم يكذبهم وحلم عليهم واحتسب وصبر…

فلما وثقوا ان لا مفر ولا حيلة… انصرفوا في خزي خافضي أصواتهم متناجين فيما بينهم… وبدأ تفكيرهم فيما يكون مع أبيهم في كنعان…

فقد أخذ عليهم أبوهم عهدا موثقا أن يحافظوا على أخيهم الثاني بنيامين… فهو شقيق يوسف… يذكره به… ويشتم منه ريحه، ويجد فيه سلوى من فقد أخيه… وأمه التي كان لها منزلة خاصة في قلبه… وقد كانت وفاتها عند ولادتها لبنيامين؛ الشقيق الأصغر ليوسف.

ترسم الآية الكريمة باقتدار الصورة الوصفية للظاهر من حالهم بلفظ (نجيّا)… وكذلك لفظ (خلصوا) أي انعزلوا بلطف وهدوء خالين بأنفسهم فحسب دون أحد من القصر… وترسم كذلك الصورة الوصفية للباطن من حالهم… وما في مكنون قلوبهم جميعا بلفظ (استيأسوا)…

عبارة (… فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا…) لا يمكن أن يتلفظ بها بليغ… ولا ينحتها خطيب… ولا يبدعها بشر، مهما كانت إمكاناته ومؤهلاته وعبقريته…

العبارة على وجازتها تصور مشهدا مربكا في حضرة العزيز… وبالتحديد تصور مشهد الانتقال من أحداث المرافعة وإثبات الواقعة بالدليل والبرهان والمداولة والنطق بالحكم… إلى أحداث وحوار الإخوة بعضهم مع بعض بعد انقطاع حيلتهم وبلسهم بإدانة أخيهم… وخوفهم من عاقبة ما سيصيب أبيهم من غم وحزن على شقيق يوسف… أبوهم الذي يقضي سحابة يومه متلمسا رأس بنيامين بيده وشاما رائحته… وهو على شيخوخته لا ينقصه مزيدا من الحزن والغم من جديد.

وفيما يبدو لي والله أعلم أن إخوة يوسف كانوا قد تحسن حالهم وانصلح أمرهم.. وندموا ندما شديدا على فعلتهم وهم صغار…

أجد علامات ذلك فيما بين السطور والعبارات؛ فخوفهم من عهدهم مع أبيهم ليس بنفس الدرجة من المكابرة والإصرار والكذب يوم ألقوا يوسف في البئر…

ولفظ (نجيا) يوحي بتغير طباع البداوة وطباع الرعاة… إلى أدب الحضر وخفض الصوت بالقصور وفي حضرة الملوك والأكابر…

وبقاء كبيرهم مع بنيامين بمصر وعدم تحمله للقاء أبيه بعد فقد بنيامين…

وقولهم في مرافعتهم بين يدي العزيز: إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه… فقد دفعهم الخوف والحزن على مصير أبيهم، لدرجة أن يضحوا بواحد منهم بديلا عن بنيامين…

اللهم لا تحرمنا لذة وحلاوة ما في كتابك بما عندنا من ذنوب وتقصير…

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon