مكارم الأخلاق ومكانتها في الشريعة الإسلامية

.

مقدمة الكتاب:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مَن بعثه ربُّه رحمة للعالمين، وعلى جميع آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد..
فإن مما يُجمع عليه العاقلون أن انهدام منظومة مكارم الأخلاق أضرُّ بكثير من انهدام المصانع وخراب البلاد، وأن فساد الأخلاق وضياع المكارم، أضرُّ على الناس من ضياع الأموال والمدَّخرات والمقدَّرات.
وأن الأُمة الإسلامية كم أصابها من نوائب الدهر وإحن الزمان على أيدي أعدائها، وكم فعلوا بها الأفاعيل، وكم نكّلوا بأبنائها، وكم هدموا البيوت والمصانع، وخرَّبوا المزارع المخضَرَّة، وكم نسفوا أعالي البنيان، وقتلوا الذَّراري والنِّساء، وساقوا الرجال ونالوا من أجسادهم وعذَّبوهم، ونكَّلوا بهم، ثم ما لبثت الأمة تعود بعد هذه الإحن أصلبَ مما كانت، وأنشفَ عودًا من قبلها، وأخبرَ بصروف الدَّهر، وتقلّبات الأيام من قبل، وما يفتؤ الزمان يدور حتى تقوم من كبوتها، وتهُبّ من نومتها.


إن ضياع الأخلاق، وانهيار القيم والمبادئ في المجتمعات المسلمة أشد في عيون المفكّرين والمتابعين لتحركات الأمم، وانبعاث المجتمعات من أسفل سافلين، وإن الأمم لا تكون، ولا يُرفع لها لواء ما لم ترفع هي لواء الأخلاق، ويشتهر أمر المكارم بين أجيالها، وما لم تعش هي بمنظومة الفضائل، من مكارم الأخلاق، وعالي الشِّيم، ولقد سطَّر أحمد شوقي ذلك في بيت من الشعر الخالد الذي لا يزال تتناقله الأجيال منذ قاله حتى يومنا هذا؛ إذ يقول:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ

فإنْ همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا

ومما يُشعرك ولا شك بخطورة الأمر، وفداحة الخُسران، تدني الأخلاق في الأمة التي كانت -ويفترض أن لا تزال- يومًا آخذة بنواصي غيرها من الأمم، ويتلفَّت إليها الغرب على أنها مهد الرسالات، ومحطّ الفضائل والأخلاق، وكما أن أبناء الشرق يغتربون لينهلوا من علوم الدنيا، كان أبناء الغرب يشرِّقون لينهلوا من فضائل الشرق، وذلك لا يجحده منصف ولا يغفله إلا مُغرِض متهوِّك.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاقِ» ( رواه البخاري ) لَيَضع بأسلوب الحصر هذا ركيزة مهمة، بل غاية في الأهمية، وهي مكانة الأخلاق الفاضلة في رسالة الإسلام، وهو صلى الله عليه وسلم لَيحصُر مهمة رسالته في تتميم هذه الفضائل التي كان العرب يحرصون عليها ويبرزونها في حياتهم، ويرفعون لواءها في مجتمعاتهم؛ من شجاعة، وكرم، وشهامة، ونخوة، ومروءة، وإغاثة للّهفان، وصدق حديث، وإعانةٍ على نوائب الدهر.. إلى غير ذلك مما هو مُستقر ومعروف في سِيَرهم.
إننا في هذه الصفحات نحاول – ونحن نركز على أهمية الأخلاق الفاضلة وخطورة انهيار منظومة مكارم الأخلاق – أن نذكِّر بتلك الأخلاق، وننقل ما يتيسَّر من صفحات تاريخنا العظيم ما يبرهن على مرادنا الذي قصدناه، والله من وراء القصد محيط.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon