عبرة تروى لجيل بعد جيل!
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي

الجملة التي جعلتها عنوانا لهذا المقال هي شطر بيت من قصيدة حيرتني أحد عشر عاما إلى أن عثرت عليها، وللموضوع قصة…

ففي أواخر عام 1998 أهداني الأخ الفاضل المذيع اللامع بإذاعة القرآن الكريم الدكتور فوزي خليل رحمه الله شريطا للشيخ سيد النقشبندي رحمه الله، به ابتهالات نادرة لم تذع بالإذاعة إلا من ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر، والغريب في هذا الشريط أن مدته تتجاوز الساعتين! لدرجة أني عندما أردت نسخه؛ تعبت في العثور على شريط ساعتين، فما كان مني إلا نسخته في شريطين.

كنت أيامها أكتب كتاب (الدولة التي ظلمها التاريخ) في صورته النهائية بعد تجهيز المادة اللازمة من المراجع، ويحتاج هذا العمل لصفاء نفس، فمكثت شهورا وصوت الشيخ النقشبندي رحمه الله لا يفارقني لا سيما عند السهر ليلا، حتى ملّه أفراد الأسرة خاصة ابنتي الكبرى، فكنت عندما يدخل علي أحد أسكت الصوت!

مضت الأيام وكبرت ابنتي وتعلقت بكلمات الشريط والقصيدة الرائعة سواء في كلماتها أو في أداء الشيخ النقشبندي الرائع لها، وكانت تطلب مني بين الحين والحين تشغيل نفس الشريط أثناء سفرنا بالسيارة، أو بالمنزل، وذلك بعد أن عرفت قدرا من الأدب والشعر وصارت تحب الفصحى وحلاوة النظم.

واضح أن الشيخ كان يلقيها على مستمعيه بدولة سوريا وذلك من خلال تعليقات المستمعين له وهيامهم بالكلمات والأداء، وأنها كانت في مناسبة ذكرى الإسراء والمعراج التي اعتاد المسلمون أن يحتفلوا فيها.

كان أول الشريط فيه هذه المقدمة، والتي تعرف عند أهل المديح بالتعطيرة:
الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة خير البرية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام
قمر الهداية وكوكب العناية الربانية مصباح الرحمة المرسلة وشمس دين الإسلام
من تولاه مولاه بالحفظ والحماية والرعاية السرمدية وأعلى مقامه فوق كل مقام
وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين ذوي الرتب العلية وشرف أمته على الأمم
فنالت به صلى الله عليه وسلم درجة الحب والسعادة والاحترام
وأنزل تشريفها في محكم الآيات القرآنية
فقال: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس ” فما أعذب هذا الكلام
نحمده أن جعلنا من هذه الأمة المخصوصة بهذه المزية الفائزة بالوصول إلى دار السلام
ونشكره على هذه العطية ونستعين به و ندعوه على الدوام
ونسأله العفو والعافية وحسن الختام.

ثم يدلف الشيخ النقشبندي رحمه الله من بعد أن يلتقط أنفاسه إلى القصيدة الثانية عن الإسراء والمعراج وهي التي تقدم الكلام عنها في بداية هذا المقال، وهي:

الله أكبر لا من و لا بطر ولا اختلاق ولا زور ولا هذر
الله أكبر ما شعت بعالمنا شمس الحقيقة يتلو آيها القمر
ليؤمن الجاحد المفتون معتبرا ويهتدي بضياء الحق من كفروا
لكن و هل بعد عصر المعجزات يرى من ينكر الرحلة الكبرى ويدكر
ويدعي أنها رؤيا قد انطلقت في الحلم ما شابها صحو ولا سفر
دع عنك ماقيل في المعراج حيث رقى إلى مقام تهاوت دونه الفكر
فذاك أمر يراه العقل ممتنعا ويملك المرء في تصديقه بهر
فإن في الجو أبعادا مفرغة من الهواء و فيها يكمن الخطر
لو جازها المرء لاقى حتفه و مضى إلى الفناء الذي في الجو ينتظر
هذا كلام الذي قد راح معترضا وراح ينكر في جهل و يدكر
وفاته أن مولانا بقدرته يسخر الكون للهادي و يقتدر
والمعجزات سمت فوق العقول فلا جن يعي سرها في الكون أوبشر
وتلك معجزة المختار كرمه بها إله عظيم الشأن مقتدر
فلا الهواء هواء عند من عرفوا ولا المكان مكان عند من نظروا
وإنما الله – جل الله – نظمها للمصطفى رحلة في طيها عبر
ومثلت لحبيب الله أمته وواجهته لدى إسرائه صور
أراه ربه من مكة للشام طائفة من الخلائق للواعين مدكر
رأى فئات لهم زرع بدا نضرا وكلما حصدوه ضوعف الثمر
فقال من هؤلاء القوم قيل له أهل الجهاد لهم ضعف الذي بذروا
ليعلم الناس أن الحرب أولها مر وآخرها الجنات والسكر
وبان للركب أقوام رؤوسهم يهوى على أمها صخر فتنكسر
وكلما هشمت عادت كما خلقت وهكذا لا يني عن ضربها الحجر
فقال من هؤلاء القوم قيل له من أهملوا الصلوات الخمس فاحتقروا
رأى وشاهد في أسرائه صورا تسمو بها النفس في الدنيا وتعتبر
حتى أتى القدس فاصطفت بمسجده جماعه الرسل حين استعلن القمر
صلى إماما بهم قبل العروج به إلى السموات واحتفت به زمر
هناك حيث رأى ما لا يكيفه عقل أو يحتويه في الورى بصر
وكلم الله طه حيث خاطبه من غير وحي وصح الخُبر والخبر
تبارك الله لا ند يشابهه و لا شريك و لا صحب و لا وزر
يدبر الأمر في عدل و يرسله بالحق ينشره في خلقه قدر
فراقبوا الله يا قومي وحكموا دينكم في الأمر واعتبروا
فدينكم أفضل الأديان قاطبة لو صنتموه لزال الذل و الخطر
فإن أردنا حياة العز سابغة يسمو بها الشرق في الدنيا و يفتخر
ففي الحنيف شفاء وفي ثناه يطيب القلب و البصر

لفت نظري كلمات جميلة من قصيدة يبدو أنها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التقط الشيخ منها بيتين أو ثلاثة وانتهى الشريط، هي:

فلماذا أوهن الخوف جناحي —– من أمير نام في غير سلاحِ
ملك العرب جميعا والعجم——– نائم في غير جند أو حشم
عبرة تروى لجيل بعد جيل——- نام ظل الله في ظل النخيل

ولحلاوة الكلمات والإلقاء مكثت أبحث عن هذه القصيدة فلم أهتد إليها إلا في أواخر عام 2009، فوجدتها منسوبة لجلال الدين الرومي، يقال أنه نظمها بالفارسية ولا يدري أحد عن من ترجمها للعربية.
وإليكم القصيدة:

عبرة حارت لمعناها العقول —– عن رسول الله في أرض الرسول
جاء يطوي البيد سعيا و الحضر —- يسأل الأحياء عن قصر عمر
أين قصر ضم خير المالكين —– و الهدى والطهر و النور المبين
قصره لا شك مرفوع البناء —- أنصفوا لو شيدوه في السماءِ
قال بعض الناس يا ضيف العرب —- قصره فوقا لدراري والذهب
لا تراه في الملا عَيْنُ البصر ——- بل تراه في العلا عين الفكر
في سماء المجد مرفوع المنار—— ركنه زهد و ذل و انكسار
التآخي فيه والعدل بناء ——– ومباني الناس غش و رياء
كل من أغلق عينيه هواه ——- فهو في الظلمة حاشى أن يراه
منزل الأرواح صدق و وفاء —– منزل الأجسام لون وطلاء
ما لقلبي مات بالشكوى ينوح —– إن قومي حالهم من قوم نوح
أسدلو جهلا على النور حجابا —- بل أصموا السمع واستغشوا ثيابا
إن نار الحقد في قلب الحسودِ —– حرمته ظل جنات الخلودِ
ومضى الرومي في شوق عظيم —– يسأل العابر عنه والمقيم
فأهاج الشوق منه والهيام—- صوت أعرابية بين الخيام
تحت ذاك النخل في حصن حصين —– حي مولانا أمير المؤمنين
قد تخلى عن جواد ومتاع—— ينشد المنزل المرجى في بقاع
قال يا سبحانه رب الوجود—– أين ذاك القصر أو أين الجنود؟
لم أكن من قبل أخشى قيصرا—–لا ولا سطوة أسياد كسرى
فلماذا أوهن الخوف جناحي—–من أمير نام في غير سلاحِ
أحصون يا الهي و قلاع——— نتوارى خلف هاتيك الرقاع
من يخف سلطان ذي العرش المجيد —– خافه كل قريب وبعيد
وبخوف الله فاز المؤمنون—– حيث لا خوف ولا هم يحزنون
ملك العرب جميعا و العجم—– نائم في غير جند أو حشم
عبرة تروى لجيل بعد جيل—– نام ظل الله في ظل النخيل
وصحا الخطاب من بعد المنام —– مثل صحوالشمس من بعد الغمام
اقبل الضيف وأهداه السلام ——– وسلام الود يتلوه الكلام
سأل الخطاب ذو الجاه العظيم—— عن صفات المبدع البر الرحيم
تسكن الارواح أجساد الانام —— و هي نور كيف تحيى في الظلام؟
قال سبوح إله الملكوت ——– فاطر السموات قدسي النعوت
أسكن الأرواح أوكار الصور —— فاستجابت حين ناداها القدر
هذه الأرواح أطيار الجنان——–فارقت أوطانها للامتحان
هي كالعطر طوته الزهرات—– و هي كالفكر حوته الكلمات
إنما الألفاظ نطق ورسوم—— والمعاني روح هاتيك الجسوم
هبطت من وقتها من لا زمان—– وثوت في أرضها من لا مكان
عالم الغيب له السر المصون —– أمره في خلقه كن فيكون
كلم الورد بسر فابتسم —— عن أريج علم الطير النغم
وهو أيضا قال سرا للحجر——- فجلا عنه عقيقا للنظر
وهو قد أفضى بسر للسحاب —– فارتوت من فيضه حمر الهضاب
عندما أوحى بسر للتراب —– صار إنسانا له الكون استجاب
ذلك العذب الفرات الهاطل —– في فم الحيات سم قاتل
ليس يحبو جوهر العلم النقاء—— غير أصداف قلوب الأولياء
جدد الخبز حياة ونماء —— حينما أصبح للحي غذاء
متى أذعن للبحر سحاب —– صار بحرا موجه طامي العباب
صاف محبوبك إن رمت الصفاء —– و افنَ في المحبوب إن رمت البقاء
و تجلى سرُه للأنبياء ———– فتساموا فوق معراج السماء
كم عروس جليت للناظرين —— و هي لا تهدى لكل الخاطبين
انزع الاصبع عن سمع اليقين —— تستجب روحك للروح الأمين
فيد الجسم بها انشق الحجر—— ويد الروح بها انشق القمر
قطر نيسان إذا ما أمطرا—— في فم الأصداف أضحى جوهرا
كن جليس الأنبياءالمرسلين ——– في كتاب الله رب العالمين

ويبقى أني لم أعرف من نظم قصيدة الإسراء والمعراج حتى يومي هذا، وغاية ما ذكر لي أنها من نظم محمد إقبال رحمه الله، وقيل إنها من نظم الشاعر الفحل محمود غنيم رحمه الله، فعلى من قرأ كلامي هذا وكان عنده جواب في أي من القصيدتين أن يفيد صاحب هذا الكلمات…. وله خالص ودي وشكري.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon