بالإملاء الحديث أم بالرسم العثماني؟
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي

كنت أفكّر من فترة في إمكانية كتابة المصحف الشريف بالخط الحديث تسهيلاً علي القراء الذين لا يعرفون شيئاً عن أساليب الخطوط القديمة ولا تاريخ المصحف ولا الرسم العثماني في زمننا هذا.

وكنت لا استطيع مناقشة الأمر – مجرد مناقشة – مع أحد من أهل العلم فضلا عن التحدث أمام العامة بهذا الأمر، لكوني أعلم بفضل الله أن الإجماع منعقد علي عدم جواز كتابة المصحف الشريف بغير الرسم العثماني، لاعتبارات شرعية كثيرة، وأعلم بفضل الله أقوال الأئمة في ذلك الأمر، وتشديدهم النكير على من يخالف ذلك.

وأعلم أن لقبول أي قراءة شروطا ثلاثة لا يمكن أن يختل منها شرط أبدا، وهذا ما جعل المتواتر المقبول منها عشر قراءات فقط، وردّوا أربع قراءات أسموها القراءات الشاذة؛ قال ابن الجزري رحمه الله في طيبة النشر:
فكل ما وافق وجه نحوِ *** وكان للرسم احتمالا يحويِ
وصح إسنادا هو القرآنُ *** فهذه الثلاثة الأركانُ
وحيثما يختل ركن أثبتِ *** شذوذه لو أنه في السبعةِ

أي أنّ لصحة القراءة لابد:
– أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه النحو.
– أن تكون القراءة موافقة للرسم العثماني ولو احتمالا.
– أن يصح السند بتواتره عن النبي صلي الله عليه وسلم.

وكنت أقول في نفسي: لكن القراءات استقرت منذ قرون، وعُرف صحيحها من شاذها، وأمنا من المخاوف التي لأجلها شدّدوا وضيّقوا ونبّهوا!…

وكانت تُلحّ علىّ الفكرة بين الحين والحين، لاسيما مع التقدم التقني وثورة الاتصالات وانتشار أساليب الكتابة الإلكترونية الحديثة، وذلك بقصد خدمة للقرآن الكريم، لاسيما أننا في كتاباتنا العادية ومخاطباتنا إذا ذكرنا أية من القرآن كتبناها بالإملاء الحديث دون نكير بيننا! فلما يمنع كتابة المصحف بها؟!

كما إني اطلعت في حياتي على نسختين من مصحف عثمان رضي الله عنه، إحداها نسخة أصلية حقيقية بعد الترميم والحفظ، والأخرى صورة عنها، وكانتا مختلفتين تماما عن المصاحف التي بأيدينا، ولا يمكن حتى لحافظ القرآن الآن أن يقرأ منها لصعوبتها، ولتغاير الرسم القديم، بالرسم الحالي في إملاء الخط.

كما مرت بحياتي تجربتنا في إحدى الشركات الكبرى التي تعمل في تقنية المعلومات، وكنا وقتها من أوائل الشركات التي قدمت جهودا كبيرة في خدمة لقرآن والسنة في مجال النشر الإلكتروني، وبرامج الحاسب الآلي، ورأيت الوقت والجهد الذي تم بذله لإنتاج حروف هجائية (فونتات) بالرسم العثماني لا توجد في حروف الحاسب الآلي.

إلي أن صرّحت بما في نفسي في بعض المجالس، وأمام أشخاص أثق فيهم وفي علمهم وأمانتهم، بما يجيش في صدري ويختلج فى نفسي من أيام قليلة مضت.

وكان الذي شجّعني على ذلك وجرّأني علي النطق به ما كتبه اللغوي الفاضل الدكتور مصطفي الجوزو؛ الأكاديمي اللبناني المعروف، ذو الأهتمام اللغوي الملحوظ والجهود الحثيثة في خدمة اللغة العربية، وذلك في مقالة له بعنوان: (أما آن لنا أن نطبع المصحف بالخط الحديث؟) في مجلة العربي الكويتية عدد 622 يناير2014.

هيّج المقال ما كان يختلج في صدري من سنين وأنا أحاول كتمانه وعدم الخوض فيه، إلي أن تجرأت وتكلمت به، ومعظم من تكلمت معهم، كان يمنعهم أدبهم أو ثقتهم في حسن نيتي، عن الرد علّي بهجوم أو انتقاد. ولم ينتقدني صراحة في وجهي ممن حدثتهم بهذا الأمر أحد، اللهم إلا أسرتي فقد استبشعوا الأمر وانكرو قولي.

وقد كان لكاتب المقال الدكتور مصطفي الجوزو حجج اتكأ عليها في دعوته إلي كتابة المصحف الشريف بالإملاء الحديث، كان هذه الحجج:
– تجنيب القراء عبء دراسة الخطوط القديمة.

– توسُّع الباحثين في هذا الموضوع واقتناعه بأن الموضوع يحتاج إلي إضافات.

– استدلاله برأي الفقيه المجاهد العز بن عبد السلام في وجوب كتابه المصحف بالمألوف من الهجاء خشية تغيير الجهال في القرآن.

– اختلاف الرسم العثماني نفسه من عصر إلي عصر، ومن خطّاط إلي أخر، وربما ما بين آية وأخري! فأي رسم ينبغي علينا اتباعه؟ أهو رسم الصحابة أم رسم التابعين؟ أم رسم المتأخرين من الكتبة؟ فالصحابة رضي الله عنهم كتبوا المصاحف خالية من الإعجام واستعملوا حروف العلة أحيانا للتعبير عن الحركات الثلاث وعن الهمزة، وأهملو الألف المتوسطة، كيلا تلتبس بالفتحة مثل (لساي) أي لشيء، وكتبوا أولئك (من غير همزة)…. ثم كان الإعجام بالدوائر الملونة، ثم بالحركات المستطيلة، وكان نقط الحروف؛ للتفريق بين المتشابه منها……. إلى أخر ما تم تعديله وتغييره.

– ومن حججه أيضا كتابة الأيات في غير المصحف بالخط الحديث، وعدم الإلتزام بخط المصحف، وذكر جماعة فعلوا ذلك؛ منهم الإمام البخاري رحمه الله فقد كتب في صحيحه (القرآن) و (آية) بمدة لا بهمزة بعدها ألف كما بالرسم العثماني، ومنهم القرطبي الذي ذكر أنه لم يلتزم بخط المصحف في تفسيره، ومنهم سيبويه الذي يكتب (إذن) بالنون وليس إذاً، فيما يستشهد به من آيات، وذكر من المعاصرين في كتبهم؛ محمد فؤاد عبد الباقي والسيد سابق رحمهما الله.

– وخلص الكاتب د. مصطفي الجوزو أخيراً في مقاله إلي نتيجة هي أن اتباع الكتبات الأولى للمصحف مستحيل! وأن في الكتبات اللاحقة تغييراً متتابعاً للكتبات الأولى، وعدم التزام نمط واحد فيها، والمؤلفات القديمة والحديثة قد تجاوزت الكتبات الأولى والكتبات اللاحقة التي وافقتها، وذلك يدل علي التدرج نحو اختيار الخط الأيسر والأوضح. وإذا كان السابقون قد تصرّفوا هذا التصرف فمن حقنا الإسهام في التيسير، فنخرج المصحف بأسهل قواعد الخط الحديث، من غير الخروج علي أصول القراءة وتجويدها…… وتمنى قائلاً في أخر مقاله: (فهل من دولة عربية شجاعة تقدم على هذا العمل؟).

وقبل أن أرد علي هذا الرأي، أعلن أني لا أقول به، واستغفر الله إن كنت خُضتّ في أمر أجمعت عليه الأمة سلفاً وخلفاً، وتجرّأت على الكلام فيه، ليس إلا لإرادة الخير.

بداية نشكر للكاتب الدكتور مصطفي الجوزو اجتهاده وإرادته للخير، ولا نتهمه، ولا نظن به سوءاً ولكن ندعوه للرجوع عن هذا الرأي، وسأخاطبه في ذلك إن شاء الله، وسأخاطب مجلة العربي لنشر الرأي الآخر المجمع عليه باستفاضة وتوضيح شامل.

والذي أراه أن الأمر ينبغي أن يظل علي ما مضت عليه الأمة كل هذه القرون، فإجماعهم عليه كل هذه القرون يعني أنه سبيل المؤمنين، ولا يجوز الخروج علي سبيل المؤمنين (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا).

وقد حكي ابن فارس أن اللغة والخط توقيف (أي تعليم إلهي) وكتابة المصحف توقيف علي الطريقة الاولي تبرّكاً بكتابة الصحابة رضي الله عنهم.

كما نُقل عن البيهقي رحمة الله وجوب المحافظة علي الهجاء الذي كتب به القدماء المصاحف، لتفوقهم علينا علماً وصدقاً وأمانة.

وقال أبو عمرو الداني رحمه الله: سُئل الإمام مالك رحمه الله: هل يكتب المصحف علي ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: (لا. إلاّ على الكتبة الأولى). قال أبو عمرو الداني: ولا مخالف له (أي للإمام مالك) في ذلك من علماء الأمة.

ونُقل عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قوله: (تحرم مخالفة مصحف عثمان في(ياء) أو (واو) أو (ألف) أو غير ذلك).

وقال الإندرابي: اتباع المصحف في هجائه واجب، ومن طعن في شيء من هجائه فهو كالطاعن في تلاوته؛ لأنه بالهجاء يتلى).

وقال البيهقي أيضا: (من كتب مصحفاً فينبغي أن يحافظ علي الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه ولا يغيّر مما كتبوه شيئاً، فإنهم كانوا أكثر علماً، وأصدق قلباً ولساناً، وأعظم أمانة منّا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكاً عليهم).

ويقول الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه (الميسر في علم رسم المصحف الشريف وضبطه) أوجب العلماء وأفتى الفقهاء بوجوب الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصاحف، وصارت موافقة القراءة لرسم المصحف شرطاً لقبولها وصحة القراءة بها، وقد نصّ علي ذلك المؤلفون في رسم المصحف، فقال أبو العباس المهدوي: لما كانت المصاحف هي الأئمة إذ اجتمعت عليها الأمة، يلزم موافقتها، ولا يسوغ مخالفتها، وكان كثير من الخط المثبت فيها يخرج عن المعهود عند الناس، مع حاجتهم إلي معرفته لتكتب المصاحف علي رسمه، وتجري في الوقف علي كثير منه لكل قاريء من القراء علي مذهبه وحكمه، كانت الحاجة إليه كالحاجة إلي سائر علوم القرآن، بل أهم، ووجوب تعليمه أشمل وأعم، إذ لا يصح معرفة بعض ما اختلفت فيه القراء دون معرفته، ولا يسع أحد اكتتاب مصحف على خلاف خط المصحف الإمام ورتبته.

ويقول أيضا: (وصار الرسم العثماني سنة متبعة سنّها كُتّاب المصاحف من الصحابة، يجب المحافظة عليها والتمسك بها. وأصدرت المجامع الفقهية في العصر الحديث فتاوى بوجوب الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصاحف وعدم استعمال الإملاء الحديث فيها).

وقال البهوتي: وتحرم مخالفة خط عثمان بن عفان رضي الله عنه في رسم واو أو ياء أو ألف وغير ذلك، كمد التاء وربطها نصًا.

وخلاصة القول أن هذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة المعروفة، والذي عليه جماهير المسلمين، وهو الذي أفتى به مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.

وقد كتب الدكتور مجيد برع العبيدي ردّا مقتضبا على مقال د. مصطفى الجوزو، نشرته مجلة العربي أيضاً عدد 665 أبريل 2014، وذكر نفس الرأي الذي عليه الإجماع، وذكر معظم ما ذكرت هنا من أقوال، وقد استفدت من ردّه هذا، فجزاه الله خيراً.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon