في مسجد قريتي

بقلم ربيع عبد الرؤوف الزواوي

في مسجد قريتي الذي تعرّفت فيه لأول مرة على بيوت الله وأنا طفل غض… وكان أول مسجد تراه عيناي، في إحدى صلوات الجمعة في صيف شديد الحرارة عام 1971 …

كان المسجد وقتها في حال متواضعة جدا، كان بلا سجاد أو (موكيت)… كان فرشه مجرد مجموعة قليلة من حصير السَّمَر القديمة، لا تغطي إلا حوالي ثلثيه.

ولم يكن مدهونا وليس له نوافذ خشبية؛ بل كانت النوافذ مسدود نصفها السفلي بالبناء والنصف العلوي متروك بلا خشب… وكان المسجد من الخارج على الطوب الأحمر كما يقولون.

ولم يكن له سُلّم للصعود أعلاه أثناء الأذان… وكان الذي يؤذّن يصعد عن طريق استخدام اللبنات البارزة من (طرف رباط) في إحدى زواياه من جهة الشمال الغربي.

كما لم يكن به دورات مياه ولا مكان للوضوء، إنما فقط سور منخفض في الجهة الغربية على مساحة حوالي نصف مساحة المسجد تقريبا، ربما يوضع داخلها خشبة حمل الموتى وربما وضعت في مؤخرة المسجد غير المفروشة، وكان للمسجد باب جهة الغرب يؤدي لهذه المساحة داخل السور.

والحقيقة لم يكن يومها يُصَلّى فيه إلا صلوات الجُمع والعيدين!… فلم يكن يومها تُصلى فيه الصلوات الخمس… ولم تكن صلاة العيدين تُصلى في الخلاء.

كما كان المسجد مهملا لدرجة كبيرة، إذ كنت ربما ترى العقارب والثعابين تأوي إليه بسبب إهماله وعدم تنظيفه وعمارته بالصلوات الخمس فيه!…

بيد أني لم أتردد على المسجد بصورة منتظمة إلا في منتصف السبعينيات، بعد أن تشجّع مجموعة من كبار السن؛ الذين ماتوا جميعا الآن رحمهم الله… ومجموعة من الشباب والكهول؛ هم الآن شيوخ طاعنين في السن وبعضهم مات رحمهم الله… ومجموعة من الأطفال؛ كنت وقتها أصغرهم سنا تقريبا… تشجعنا على محاولة الانتظام بالصلاة في المسجد.

وكان يشجّعني شخصيا على ذلك وجود أشقاء يكبرونني يحبون الصلاة ويحافظون عليها صغارا… وبتشجيع من الوالد والوالدة رحمهما الله…

كما كانت تنتشر على ألسنة الكبار وقتها مقولة (المسجد إمّا رحمة أو نِقمة)! يقصدون أنه رحمة لو تم عمارته بالصلوات فيه، ونقمة لو تم هجره وعدم إقامة الصلوات فيه… وهي مقولة فيها شيء من الصِحّة.. فالبلد الذي لا يؤذن فيه بالصلوات الخمس مصيبة تستوجب الفتح الإسلامي!…

فبدأنا بفضل الله في منتصف السبعينيات المواظبة على الصلاة في المسجد عدا صلاة الفجر… إذ كان الإشكال كبيرا في إضاءة المسجد بلمبات الجاز الأبيض أو الـ(كيروسين)… التي كانت تنطفئ كلما هبت الرياح… كما كنا نخاف من المشي في الظلام؛ حيث لا توجد كهرباء بالقرية آنذاك والمسافة بعيدة إلى حد ما.

إلا أن وجود (فانوس) يعمل أيضا بالجاز الأبيض محكم الغلق لا ينطفئ بفعل الرياح، كان قد جاء به شقيقي الأكبر من ليبيا؛ فكان هذا الفانوس مشجعا لنا على الذهاب إلى المسجد كل ليلة في صلاة العشاء، حيث لا ينطفئ.. ويشجع على الاستضاءة به من البيت إلى المسجد والعكس… مع تشجيع الوالدة رحمها الله.

تطوّر هذا (الفانوس) فيما بعد إلى (كُلُوب)… وكان هذا فتحا عظيما… إذ كان هذا (الكلوب) يحدث نوعا من الدفء في الشتاء لا سيما ليالي الصقيع…

ثم حصل نوع من التطوّر أكثر فأكثر؛ فاعتاد الناس على الصلاة بالمسجد وصار الناس يترددون عليه بصور أفضل وأكثر… وذلك في أوائل الثمانينيات…

كما كانت التراويح في شهر رمضان تصلى بآية واحدة في الركعة! وربما تستغرق التراويح كلها عشر دقائق أو أقل!…

وكانت خطبة الجمعة متواضعة جدا وتقرأ من كتاب قديم يسمونه (ديوان) وذلك حتى نهاية السبعينيات… ثم حصلت ظروف آنذاك سمحت للشباب الذين في الثانوي وبدايات الجامعة بارتقاء المنبر لأول مرة… فصعدتُ المنبر لأول مرة في حياتي عام 1982 وكنت وقتها بالصف الأول الثانوي… وشجعني على ذلك وجود شقيقي الذي خطب عدة جمع قبلي بفترة…

وتم بناء دورات مياه متواضعة جدا وتركيب (طُلُمبة) ماء وتوصيل المياه عبر خزان اسمنتي مباشرة لمكان الوضوء ودورات المياه، في المساحة الغربية التي يحيط بها سور… كما تم بناء سلم للصعود أعلى المسجد للأذان…

تطوّرت خطبة الجمعة والعيدين إلى حد ما… وتطوّرت صلاة التراويح في رمضان، فصارت أطول قليلا…

تم كذلك تركيب شبابيك للمسجد وبعض التجديدات المتواضعة في هذه الفترة…

وبعد دخولي الجامعة في منتصف الثمانينيات حصل التجديد الأكبر للمسجد؛ فتم دهانه وإصلاح سقفة من أعلى، وتم هدم المنبر الاسمنتي القديم الذي كان يقطع صفين تقريبا… وعمل منبر خشبي قصير لا يقطع الصف الأول…

كان للاعتكاف في هذا المسجد طعمُه الخاص، وكانت تُفتَح للروح فيه معارج إلى السماء، ويجد القلب فيه سلواه؛ أذ لم يكن وقتها ثمة تعلّق بدنيا… من مال أو زوجة أو ولد…

والحقيقة أنها كانت أيام فيها النفس منقادة، والروح تلتذ بالتّنَسُّك والعبادة… سقى الله تلك الأيام، وساق إليها وابل الغمام، وطهرها غَمْرا بماء السلام، وطيّبها غَبَاً بدُهن الإنعام.

ومع دخول الكهرباء للقرية، وحصول شيء من الصحوة الدينية، ووجود أجيال أصغر من جيلي، كانت تنظر إلى مثلي آنذاك على أنه شيخ أو أستاذ لهم…

استمرت هذه الأجيال ومعهم الفضلاء من الكبار في الاهتمام بالمسجد، فتم تجديده ودهانه مرة أخرى… كما تم بناء مسجد آخر بالقرية…

ثم من حوالي عامين أو ثلاثة تم هدم هذا المسجد وبناؤه بصورة أفضل وأحسن…

وأهل قريتي بارك الله فيهم جميعا من أحسن الناس اليوم مواظبةً على الصلوات… لا سيما في المساجد…

نسأل الله أن يتقبل وأن يبارك.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon