أمير المؤمنين عمر وصاحبة القدر
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي
أنشدني بلحن جميل ليلة أمس (كان ذلك في يوليو 2015) شقيقي المهندس عبد الباسط وفقه الله وبارك فيه أبياتا من قصيدة جلال الدين الرومي في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه… التي قالها في قصة رسول كسرى أو هرقل عندما رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مستغرقا في نومه تحت نخلة من نخل المدينة…
أنشد يقول:
ملك العُرْب جميعا والعجمْ … نائم في غير جند أو حشمْ
عِبرة تروى لجيل بعد جيلْ … نام ظل الله في ظل النخيلْ
ثم سألني عن هذه القصيدة محور هذا المنشور… ووعدته بها… وها أنا ذا أفي بوعدي.
وقد عثرت عليها بعد عناء… ذلك لأنه لم يتذكر منها بيتا بنصه، وإنما وصفها لي وصفا عاما، ولم يذكر لي منها غير معنى البيت الأخير من المجموعة قبل الأخيرة من القصيدة…
والقصيدة لغتها بسيطة وتسمى في الأدب ب(القصيدة القصة) تصور حكاية أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخادمه (أسلم) عندما وجد ذات ليلة – وهو يتفقد الرعية ليلا كعادته – امرأة تصبر أطفالها وهم يصرخون من قرصة الجوع بطبخ قدر يغلي فيه ماء به قطع من الحجارة! توهمهم بأنها تنضج لهم الطعام.
تألم أمير المؤمنين رضي الله عنه عندما اطلع على حقيقة الوضع… وكان منه ما تعرفون؛ من حمل الطحين والسمن وإنضاجه الطعام بنفسه لهم… فلم يتركهم إلا وهم يلعبون فرحين.
يصور الشاعر تلك القصة على لسان أسلم خادم أمير المؤمنين، في هذه الابيات البسيطة الرائعة في صورة أرجوزة؛ خلط فيها شاعرنا بين القصيدة والأرجوزة، كلماتها سهلة بسيطة… ولكنها عميقة المعاني ومبكية.
أترككم مع (الأرجوزة القصيدة القصة):
كنت ليلاً مع أمير المؤمنين
عمر الفاروق ذي القدر المكين
صاحب الدرة ثاني الراشدين
مَن به الله أعز المسلمين
فقووا حتى أذلوا المشركين
وإذا نار أضاءت سحرا
قال يا أسلم قم ماذا أرى
علَّهم ركب يريدون القِرى
فخرجنا وهو كالسهم انبرى
ودنونا من خِبَاء المصطلين
فإذا بامرأة قد نصبت
قدرها بين عيال أعولت
ثم حيينا فردت واستوت
قال هل أدنو فقالت إن أردت
فبخير أودع القلب الحزين
قال ما بال العيال تصرخ
قالت الجوع وإني أنفخ
أُوهِم الصبية أني أطبخ
علَّهم من بعد ذا أن يفرخوا
ويناموا حول قِدري جائعين
يا لنار أُضرمت في الأضلع
أحرقت قلبي وأجرت مدمعي
بيننا الله و بين الأصلع
ها أنا من فرط جوعي لا أعي
بين نَوْح وصياح وأنين
قال يا أماه مَن أدرى عمر
بك قالت ذاك أدهى وأمر
من تولى أمرنا لا يستقر
ينبري للناس في قرٍّ وحرّ
يسمع الشاكي و يؤوي البائسين
وَيْ لعمري كيف يرعى وينام
ليس هذا من قوانين الأنام
من سها عن نوقه جنح الظلام
يتولى رعيها راعي الحمام
إنما هذا جزاء الغافلين
ولقد أصغى لها من غير ضيق
وهو بالإصغاء للشكوى خليق
فمضى بي ذلك الشيخ الشفيق
يسرع الخطو إلى دار الدقيق
وأتى منها بدهن وطحين
ثم قال احمل عليَّ قلت وي
بل أنا أحمل قال احمل علي
قلت عفوًا قال هل منكم فتي
يحمل الأوزار عني يا أُخي
يوم يُؤتى بي لرب العالمين
وسرى الفاروق خوف النقمة
في الدجى يحمل قوت الصبية
وهو ممن بشروا بالجنة
لا يرى في حمله من حطة
بل قيامًا بحقوق المسلمين
فمضى بي مسرعًا نحو الصغار
فأتيناهم وهم في الانتظار
ولفرط الجوع بين الجنب نار
في استعار ما لهم منها قرار
ورأونا فاشرأبُّوا قائمين
قالت الأم اصبروا قد جاءنا
ذلك الشيخ بما فيه المنى
ولقد يسرها الله لنا
والأمير غافل عن حقنا
في كتاب الله بالنصر المبين
فدنا منها برفق وابتسام
ودموع العين منها في انسجام
قال قومي هيئي هذا الطعام
معنا إن اليتامى لا تنام
بالطوى والله خير الرازقين
رحم الله أبا حفص عمر
وسقى بقعته صوب المطر
فلقد أبصرت أسلاك الشرر
تلفح اللحية منه بالسحر
وهو مهتم بإنضاج العجين
قالت الأم وقد رُمنا القيام
وتركنا عندها فضل الطعام
يا رعاك الله يا ساري الظلام
تحمل الأقوات للغرثى الصيام
أنت أولى من أمير المؤمنين
قال إي يرحمك الله اعدلي
واذكري خيرًا ولا تستعجلي
فإذاجئتِ الأمير فادخلى
تجديني قاعدًا في المنزل
وعليَّ الجد في ما تطلبين
وتنحى عنهم مستترا
رابضًا مربض آساد الشرى
وأنا أطلب تعجيل السرى
فإذا هو مقبل مستبشرا
شاكرًا لله رب العالمين
قال يا أسلم قد أسهرهم
قارس الجوع بل استعبرهم
ولذا أحببت أن أبصرهم
في سرور وكذا غادرهم
فلقد ناموا جميعًا باسمين
هكذا كانوا عبيد الأمة
لا غرانيق العلى والعزة
مزجوا شدتهم بالرحمة
ولذا شادوا صروح الرفعة
ومضوا شرقًا وغربًا فاتحين
هذا… ولا أعلم – حتى لحظتي هذه – من قائل هذه القصيدة الجميلة… وأذكر أنني مكثت بضع عشرة عاما لا أعرف من قائل قصيدة جلال الدين الرومي… ولعل الله يعجل معرفة قائل هذه…
والقصة لمن لا يعرفها؛ فهي كما يحكيها أسلم رضي الله عنه نفسه، إذ يقول:
خرجت ليلة مع عمر إلى حرة واقم ، حتى إذا كنا بصرار إذا بنار فقال : يا أسلم هاهنا ركب قد قصر بهم الليل ، انطلق بنا إليهم ، فأتيناهم فإذا امرأة معها صبيان لها و قدر منصوبة على النار وصبيانها يتضاغون.
فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء.
قالت: وعليك السلام.
قال: أدنو.
قالت : أدن أو دع.
فدنا فقال: ما بالكم؟
قالت: قصر بنا الليل و البرد.
قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟
قالت: من الجوع.
فقال: و أي شيء على النار؟
قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا و بين عمر.
فبكى عمر ورجع يهرول إلى دار الدقيق؛ فأخرج عدلا من دقيق وجراب شحم، وقال: يا أسلم احمله على ظهري.
فقلت أنا أحمله عنك.
فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟
فحمله على ظهره و انطلقنا إلى المرأة، فالقى عن ظهره وأخرج من الدقيق في القدر، و ألقى عليه من الشحم، و جعل ينفخ تحت القدر و الدخان يتخلل لحيته ساعة، ثم أنزلها عن النار، و قال: إيتني بصحفة.
فأتي بها فغرفها ثم تركها بين الصبيان، وقال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا – و المرأة تدعو له و هي لا تعرفه – فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصلهم بنفقة وانصرف ، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم ، الجوع الذي أسهرهم و أبكاهم.