فرصة السفر في مواسم الحج والعمرة
بقلم ربيع عبد الرؤوف الزواوي
عادة ما تتيح لي رحلة السفر أثناء مواسم العمرة والحج فرصة للتعرف عن كثب على طبائع أهلنا المصريين من جميع المحافظات…
وأقول (فرصة) حقيقة لا مجازا؛ فإن البعض يتذمر مما أسميه فرصة ويتجنبه…
كما يمثل لي التواجد بأحد الحرمين في تلك المواسم فرصة أخرى لذات الغرض…
فمحافظات مصر كثيرة… وأهلها متفاوتون شكلا ولهجة وأسلوبا… ومن غريب الأمر أن بعض الكلمات أو التصرفات أو الإشارات يعد في بعض المحافظات أمرا عاديا وفي بعضها الآخر محرما…
ومحافظات مصر تتيح لك أن ترى في أهل محافظة مطروح الليبيين، وترى في أهل أسوان السودانيين، وترى في أهل سينا الفلسطينيين، وترى في بعض أهل القاهرة ومحافظات الوجه البحري اﻷوربيين… وهذا لعمري من بديع صنع الباري وعجيب خلقه، في اختلاف الألسنة والصور…
والحق يقال إنني معني بتلك الأمور أرصدها على وجه التحليل الاجتماعي والنظر… وليس للطرفة والدعابة… أو الاستخفاف أو الاستغراب.
بيد أن الأمر لا يخلو من طرف وملح تحكى على وجه الدعابة والنكتة… لأن بعض أهلنا طيبين وعلى سجيتهم…
– قال لي شقيقي إنه في رحلة السفر للعمرة من الإسكندرية إلى مطار ينبع قاصدين المدينة… كان معهم معتمرون من بعض الأقاليم بالطائرة، وتأخر الإقلاع قليلا؛ فطفق النساء يزغردن… ويغنين للطيار… محرضات إياه على الطيران طالما الجو خالي قدامه… دون انتظار الإذن من برج المراقبة!…
– وقال: تحدثنا عن خدمات الحكومة السعودية بالحرمين… وتيسير الأمور للمعتمرين بقدر الإمكان و و … إن صهره يقول مازحا: لو كان الحرمان في مصر ﻷعطوهما لنجيب ساويرس حق انتقاع 40 سنة ولكتبوا على عبوات الماء: سقيا النيل.
– وفي مرة وقفنا صفوفا من جميع الجنسيات بالمطار في جدة لإنهاء إجراءات الخروج والمغادرة… فسمعت صوت رجل من خلفي يهدرز (يحكي في أريحية) مع زوجتيه من خلفه، بلهجتهم المحلية، ظانا أن أحدا لن يفهم ما يقول… وحتى لا يتعمق في مزيد من (الهدرزة) وقبيل الوصول للموظف لوضع خاتم الخروج على الجوازات بعدة أمتار؛ التفت إليه نصف التفاتة قائلا له: من محافظة مطروح حضرتك؟
فرد مبتسما ومستغربا: إيه… نعم نعم… أيش عرفك؟
قلت ضاحكا: من هدرزتك…
فقال: من وين حضرتك؟
قلت: من القاهرة
قال: لااااا
قلت بلهجته ضاحكا: نا مولود في البحيرة…
قال: لمان من هلنا في لبحييره؟ أي من أي قبيلة في البحيرة؟
قلت: زواوي
قال: ويش تسوي هَنا يا دَكتووور؟ (بفتح الهاء والدال)
قلت: أنا مهندس استشاري أروح وارجع باستمرار…
التفت لإحدى زوجتيه مزيحا الأخري بيده وقال بصوت عالي جدا: يا فلانة… المشتشار هضا من ضنا عمك؛ زواوي من لبحييره (يعني: هذا المستشار من أبناء عمومتك من البحيره).
فضحكت ووضعت يدي على صدري محييا ابنة العم مطأطأ برأسي خجلا من الناس الذين أصبحوا ينظرون إلينا بسبب صوته العالي…
قدمته وزوجتيه على نفسي في الدور… فحياني بصوت أعلى من الأول… لدرجة إني ندمت على فعلتي…
– في إحدى المرات وقبيل دخول صالة انتظار صعود الطائرة بمطار جدة، وعند وضع المتعلقات المعدنية في صناديق خاصة تمر من الجهاز… وبعد أن مررت وبينما أضع متعلقاتي المعدنية من نظارة وقفل الحزام وغير ذلك في جيبي للانصراف في مكان مناسب للبس… وجدت يدا تمتد للصندوق الخاص بي تأخذ موبايل قديم عليه الخط السعودي ورفعه ونادى بأعلى صوت: هو دا موبايلك يمه؟!… ردت أمه: مش عارفه بجه يا حسييين… هو أنا شايفة!…
قلت له ضاحكا: بص يا حسييين يابني؛ الحمد لله إن أنا مصري زيك… تعرف لو عملتها مع واحد هندي كان صفعك… يا ابني مش كدا… هو موبايل أم حسييين هينط من صندوقها يجي عندي داخل الجهاز؟!…
– ومن عجيب ما رأيت في سفرياتي كذلك حلة محشي كبيرة على سير تسلم الحقائب بالرياض…
– وأحد الحجاج عام 1998 كان آخذ معه الشيشة بالخرطوم الطويل وصرة فحم وكرتونة معسل! إي والله.
– وقال الشيخ محمد السيد المصري: أذكر أننى مرة كنت في ساحة الحرم قريباً من رجلين أظنهما من القرويين من الدلتا حسب لهجتهم فسمعت أحدهما يقول للآخر:
((واد يا عوضين …ما تقفش لنا جوز من الحمام ده نفطر عليه ) وهو يشير إلى حمام الحمى… وكنا في رمضان، فلم أملك نفسي من الضحك، وحاولت إفهامهما ما معنى حمام الحمى و….
ولم أستطع من الضحك وتركانى وانصرفا يظناني أسخر منهما…
– من عجيب ما سمعت من أحد موظفي المطار بالقاهرة، وهو كما يبدو من هيئته خبرة قديمة، وهندامه جميل، ويدل على ثقافة و… يقول لزملائه عند فتحهم باب صالة المغادرة لنقلنا للطائرة: بصوا يا جماعة؛ عايزين نخلص الليلة دي بسرعة بالصلا عالنبي(!)… إي والله هكذا…. وكنا وقتها قبيل الشروق بلحظات!…
– في إحدى السفريات لم أجد أماكن على طائرات مصر للطيران والخطوط السعودية لشهر مقدما… فكلمت أحد معارفي من وكلاء السياحة بمصر فسجلني ضمن مجموعة معتمرين عنده… وحصل لي على التذاكر المطلوبة بأسعار عالية جدت… وكانت السفرية على متن رحلة إضافية في الخطوط السعودية، تم تدبيرها من إحدى رحلات ماليزيا…
فكان طاقم الطائرة ماليزيين كلهم… وكان الكابتن يتلو بياناته بالانجليزية ولم ينطق باللغة العربية سوى دعاء السفر بلكنة عربية مكسورة… ينطق فيها الحاء هاء…
وقبيل محاذاة الميقات تلى على الركاب ان الميقات بعد كذا دقيقة… وكان كل الركاب على متن الطائرة معتمرين من محافظات مصر المختلفة معظمهم نساء عجائز… وهذه ملاحظة تحتاج تأملا ونظرا…
حينها رفعت صوتي بالتلبية؛ قاصدا تنبيه من حولي… فسمعت إحدى العجائز تقول معلقة على بيان الكابتن: هو كان بيرطن بيقول أيه يا ابني؟…
ففهمت انها ليس عندها خبر… فقلت لها: يا أمي انت رايحة مكة ولا المدينة الأول؟… فقالت: والله ما اعرف يا ابني… فقلت لها: طيب… لبي وانو العمرة على بال ما تعرفي انتم رحلتكم على فين؟ فقالت والله ما عارفة اقول حاجة!!! قلت لها ذلك اجتهادا مني بحيث لو كانوا قاصدين مكة لم تفتها نية الإحرام من الميقات… وإن كانوا قاصدين المدينة ما ضرها شيء لجهلها بالأمر…
والسؤال؛ من مع هذا العجوز؟ أين من أخذ منها تحويشة العمر ووعدها بعمرة لوكس؟… أين مشرف الرحلة؟ أين مجموعتها؟ فقد سألتها: معك حد؟ فالتفتت يمينا وشمالا ثم قالت: آه… ولم تلو على أحد.
*****
– بعد الهبوط في جدة تم نقلنا إلى مدينة الحجاج بالمطار… والحق يقال لم تستغرق إجراءات الدخول – رغم كثافة الرحلات من شتى البقاع – أكثر من خمس دقائق… وقفت منتظرا حقائبي ريثما تصل على السير… فشاهدت عجوزا تبصر أمامها بالكاد… تحمل فوق كتفها حقيبة ثقيلة… قلت لها: يا أمي اوصفي لي شنطتك وانا أجيبها لحد عندك… فقالت: لا ممعييش شنط تاني… هي دي بس… ثم اقتربت مني وقالت: هو فين المقام؟!!! بلهجة أهالينا الفلاحين…قلت لها: مقام مين يمه؟ قالت: الشيخ… ثم تركتني وانصرفت… إي والله العظيم…
ومن قراء كلامي هذا من كان شاهدا معي على هذا الموقف المبكي… وضحكنا ضحكا كالبكاء… وتعجبنا سويا من هذا المشهد الحزين…
تصورت في البداية انها تقصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم… لكنها أكدت لي إنها تسأل عن مقام شيخ…
حسبنا الله ونعم الوكيل… هذا نموذج لامرأة أتت من بلد الأزهر… بلد الدعاة ولمشايخ الذين يظهرون بالفضائيات ليل نهار… بلد المتدينين بالفطرة… و 7000 سنة حضارة… و… و…
*****
– جلست بعد صلاة المغرب ذات مرة بالبيت الحرام منتظرا صلاة العشاء… وكان أمامي مجموعة من أفارقة مكة المقيمين بها من مئات السنين… ويتكلمون اللهجة السعودية بطلاقة… لكنهم عندما يخلون بأنفسهم فإن لهم لغة يتكلمون بها وطقوسا لا تكون مع الآخرين…
وقفت اركع ركعتين من خلفه مباشرة؛ فهالني ما شاهدت؛ شيخ كبير من هؤلاء الأفارقة وطاعن في السن ويبدو أنه المقدم فيهم، بيده كتاب كأنه مصحف… لكن كل ورقة قائمة بذاتها… كورق (الكوتشينة) مطبوع طباعة فاخرة بالألوان… حدقت بالمكتوب فيه… فإذا هي أذكار شركية… مبتدعة لا يمكن ان تخطر عباراتها ببالك أبدا… يتلوها في خشوع وسكينة… غير عابئ بما حوله من مشاهد الخير والسنة والعلم المستفيض… فجلوسه كان في مكان يحيط به ثلاثة شيوخ يدرسون بالحرم في ثلاث حلقات علم…
فقلت في نفسي مخاطبا إياه: أي عدو نفسه… أنت في باطلك تهيم والسنة مستفيضة بين يديك ومن خلفك في الحرم… إنك لمحروم مبعد… لعل إصرارك وكبر في نفسك ومقتك للسنيين الذين تسميهم (مطاوعه) من حولك قد أحاط بك فأوتيت من قبله… ودار في رأسي مشاهد لمن أتي الله بهم من أماكن السكر والعربدة والفجور من آخر بقاع الأرض فأقامهم على منهجه وأغدق عليهم جوده وفضله… وهذا المسكين في حرم الله محروم… تذكرت أيضا قول الشاعر:
كالعيس في الصحراء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
نسأل الله أن يقيمنا في رضاه وعلى منهجه الذي يرضيه…
*****
– جلست ذات مساء في استقبال الفندق الذي أقيم فيه حيث تتوفر شبكة النت لإرسال بعض الرسائل المهمة ولمعرفة الأحداث في مصر الحبيبة…
جاء مصري بملابس الإحرام وجلس بجانبي على طرف نفس الكنبة التي أجلس عليها وهي طويلة، فلطمني في قدمي وهو في طريقه للجلوس بطريقة تنم عن سوقية وعدم اكتراث… ولم يعتذر ولم يعبأ بما فعل!…
قلت في نفسي لعله مهموم أو مكروب… لكن طريقة حديثه في الهاتف تدل على إسفاف غريب وسوء خلق بادي للعيان… نسأل الله العافية…
جاء إليه شخص مهذب وقال له: إزيك يا فلان… أنا علان الذي كذا وكذا… فتجاهله ذلك الإنسان… ثم قال له المهذب: أما زلت كما انت؟ فقال له وهو ينفث دخان سجارته: إيوه زي ما انا فلول، عاجبك ولا مش عاجبك؟ فلوووووول، يحرق ميتين…
هذا سلوك مصري محرم بعمرة في بلد الله الحرام…
لكن يبقى أن السفر فرصة للنظر والتأمل ولا شك…
