في رحاب خواتيم سورة براءة
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي
أتوقف أحيانا كلما مررت بهاتين الآيتين العجيبتين اللتين ختمت بهما سورة التوبة، أو براءة، أو الفاضحة… (لقد جاءكم رسول من أنفسكم… ) إلى آخر السورة الكريمة.
فمع قوة آيات السورة الكريمة من أولها إلى آخرها وشنها الحرب دون هوادة على المنافقين والمشركين وغيرهم… تفضحهم وتكشف خبيئة نفوسهم المريضة، وتظهر أمراض قلوبهم وتعري حقيقتهم…
أقول رغم ذلك… شاء الله جلت قدرته أن يختم هذه السورة رغم ما فيها من إعلان الحرب على المشركين وكشف المنافقين أمام أنفسهم… ورغم أنها السورة الوحيدة التي لم تبدأ بالبسملة؛ إذ لا رحمة بأولئك في الدنيا أو الآخرة… رغم ذلك… ختمت بهاتين الآيتين الكريمتين، لتضع بين أيدينا صفات ذلك الرسول الكريم، وتبين ما حباه الله من خلق قويم.
فيؤكد ربي جل وعلا مجيئ هذا الرسول الكريم الذي هو:
– من خيار الناس نسبا وأنه منهم يعرفونه ويقرون بفضله وكرم محتده وعلو نسبه صلى الله عليه وسلم.
– يعز عليه صلى الله عليه وسلم ويحزنه أي عنت أو شدة أو مشقة تصيبنا.
– حريص على هدايتنا والأخذ بأيدينا لدين ربنا وقبولنا له لننجوا.
– رؤوف رحيم بالمؤمنين، يرق قلبه عليهم ويتألم لهم ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم.
سبحان الله… ثم تجيئ الآية الكريمة الأخيرة في السورة لتقفل هذا القوس المفتوح من أول السورة تجاه أولئك المعرضين الذين تولوا ولم يقبلوا ذلك النور وتلك الهداية التي جاءهم بها…
وترسم له طريقا واضحا وعلاجا ناجعا معهم، من غير لف ولا دوران… ولا زيادة ولا نقصان…
فسياق الآية الكريمة قبلها التي وضحت موقفه صلى الله عليه وسلم من المؤمنين… فما الموقف ممن استكبر ولم يؤمن ولم يقبل الحق الذي جاءهم به ولم ينافق ولم يحارب ولم يتآمر؟… تصرح الآية الكريمة… ما عليك يا نبي الله إلا أن:
– تحتسب…
– وتتوكل على ربك…
فتعلنها صريحة: (فقل: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم).
فتنقله الآية الكريمة من تكذيب الكافرين ونفاق المنافقين وما في السورة من صور مختلفة لتلك الأمراض ومن هذا العالم السفلي برمته… إلى ذلك الملكوت العلوي… عند عرش ربه العظيم…
إنها – بحق – نقلة كبيرة وصورة عظيمة ووصف لشيء عظيم وهو العرش، تختم به السورة الكريمة وتحط عندها رحالنا… وتدلنا وتأخذ بألبابنا إلى ذي عرش عظيم… رب هذا الكون ورب أولئك المكذبين والمنافقين.
وجدير بالذكر لفت النظر إلى ما تستشعره النفس من لطف وجمال تصويري وبلاغي في لفظي (عزيز) و (حريص) ثم تقديم لفظ (بالمؤمنين) على (رؤوف رحيم) ولو شاء سبحانه لجعل السياق واحدا كما في عزيز وحريص فقدم رؤوف ورحيم… لكنه جلت قدرته جعلها بالمؤمنين رؤوف رحيم… لاختصاص المؤمنين برأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم.
فلا يمكن لبليغ أبدا مهما أوتي من صنعة وآلة وفصاحة ولباقة… أن يختم كلمات شديدة فاضحة كاشفة تعلن غارة الحرب وتكشف خبث نفوس المنافقين و…. بمثل هاتين الآيتين الكريمتين اللتين تكشفان عن نفس عظيمة وتنبآن عن معدن غير عادي آتاه الله تعالى من فضله لذلك النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
ولقد صدق الشاعر الرقيق عبد الله شمس الدين رحمه الله حين قال في وصف بعثة النبي صلى الله عليه وسلم:
يا نورُ يَومَ وُلِدْتَ قامَتْ عِزَّةٌ
للأرض؛ إذ أمْسَت لِنوركَ تنتمي
الكوكبُ الأرضِيُّ حِين وطِئتهُ
أمْسَىْ حَصَاهُ يَتِيهُ فوقَ الأنجُم ِ
َطوْعَاً لأحكام القضاء َخطىْ على
هذا الثرى َخطوَ اليتيم المُعْدَم ِ
متجرداً من كل جاهٍ ظاهرٍ
وبغير جَاهِ الله لم يَسْتَعْصِم ِ
صلى الإلهُ عليهِ نوراً هادياً
متعبداً في غارهِ لم يسئم ِ
هَيْمَانَ تضرعُ للسماء دموعه
في تِيْهِ مشتاق ووَجْدِ مُتَيَّم ِ
يارب إليك تشَوَّقتْ روحي
وحبك مُسْتَثارٌ في دمي
حتى أتى الروح الأمين يَضمُّه
ضمَّاً على رَهَبُوتِهِ المُتبَسِّم ِ
اقرأ نبيَّ الله، اقرأ وابتهل
وبذكر ربك يا نبيُّ ترنم ِ
اقرأ وربك مُلهِمٌ ، سبحانه
قد علم الإنسان ما لم يعلم ِ
فاللهم صل وسلم وبارك على هذا النبي وعلى آله وصحبه وسلم…