قصة وموقف وعِـبــَر
بقلم ربيع عبد الرؤوف الزواوي
منذ حوالي شهرين تقريبا كلمني فضيلة الأستاذ الشيخ محمود السعداوي حفظه الله عن مقال لي تم نشره في عام 2002 بمجلة منار الإسلام الإماراتية، وأن المجلة ظلت تكتب تنبيها في عدة أعداد تطلب عنواني لإرسال المكافأة المالية لهذا المقال، وأنا غافل عن كل ذلك وفاتتني المكافأة العظيمة!!!… ولم يكن وقتها يعرف أرقام هواتف لي ليتصل بي…
ظل جزاه الله خيرا يبحث إلى أن عثر على العدد والمقال وصوّره وأرسل لي صوره… وهذا هو المقال، بعد تصرف قليل في بعض الألفاظ…
كان الجو صحوا، وفي تمام الثانية عشرة ظهرا، في يوم صاف من صيف عام 1998، أقلع بنا القطار من القاهرة متجها إلى الإسكندرية، وبعد أن سار بنا قليلا، وكالعادة… فُتح (التليفزيون) بالقطار على (فيلم) من الأفلام القديمة المعروفة وفيه من مشاهد الرقص والغناء وغير ذلك ما هو معروف… استرجعت وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله وحسبي الله ونعم الوكيل.
كعادتي – والحمد لله – أحمل معي المصحف، وأي كتاب من كتب الحديث النبوي الشريف، وربما كتاب آخر… أقرأ في وقت السفر – إن يسر الله ذلك – فمددت يدي إلي حقيبتى واستخرجت الكتاب الذي معي، وكان الجزء الثاني من مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري رحمه الله، وكان ذلك في جو ممتلئ لهوا وعبثا وغفلة، فوقع نظري فيما أقف عليه من باب في الكتاب: عن أبي وائل رضي الله عنه قال: غدونا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماٌ بعد ما صلينا الغداة فسلمنا بالباب، فأذن لنا، قال: فمكثنا بالباب هُنية، قال فخرجت الجارية، فقال: ألا تدخلون؟ فدخلنا، فإذا هو جالس يُسبّح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أُذن لكم؟ فقلنا: لا إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم، قال: أظننتم بآل ابن أم عبدٍ غفلة؟ قال: ثم أقبل يسبّح حتى ظن أن الشمس قد طلعت، فقال: يا جارية انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله رب العالمين الذي أقالنا يومنا هذا، فقال مهدي: وأحسبه قال: ولم يهلكنا بذنوبنا، قال: فقال رجل من القوم: قرأت المفصّل كله البارحة. قال: فقال عبد الله: هذا ًكهذّ الشِعر! أما لقد سمعنا القرائن، وأني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثماني عشرة من المفصّل إلى جانب سورتين من آل (حم).
فلم أتمالك نفسي وأنا أقرأ سطورها و أفكّر في كلماتها، أن دمعت عيناي… فقط لما بين الصورتين من فارق كبير، جو القصة التي أقرؤها، والجو الذي حولي، ووصل القطار بنا إلي مدينة الإسكندرية والكتاب بيدي، لم أقرأ سوي هذه القصة، طوال أكثر من ساعتين، ووجدت نفسي تميل إلي أن أخرج قلمي والقرطاس، وأكتب قصتي هذه خلال الساعتين، أكتب ما حدث، أكتب مشاعري وما شعرت به، ووددت أن ينتفع به من يقرؤه، خاصة وأن القصة صورة عجيبة، غريبة، عن قصصنا نحن اليوم.
وقبل أن أكتب ما استفدته من هذه الصفحة المشرقة من تاريخ سلفنا الكرام، رضي الله عنهم جميعا، أطلب في حياء منك – آخي المسلم – أن تعود فتقرأ القصة مرة ثانية، قصة زيارة أبي وائل وبعض أصحابه لعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم جميعا ثم : انظر إلي أبي وائل رضي الله عنه، عندما يقول: (غدُونا….) فمتي ذهب هو ومن معه لزيارة الحبر عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه؟ ذهبوا في الغدوة؛ وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.
قال الفيومي رحمه الله في المصباح المنير: غدا غدوا من باب قعد، ذهب غدوة، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. في هذا الوقت ذهب هؤلاء النفر لزيارة عبدالله بن مسعود، في وقت ثمين غال عند عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، وما كان لمثل عبد الله بن مسعود ليغفل عن مثل هذه الساعه، ما كان ليضيع هذا الكنز، إنه يعرف جيدا قيمة هذ الوقت، ويعرف ما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي، أنه صلى الله عليه وسلم قال: “من صلي الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتي تطلع الشمس ثم صلي ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة”.
أما أبو وائل وأصحابه فقد ذهبوا ليتعلموا علما نافعا يسمعونه، أو سمتا حسناٌ يشاهدونه… ذهبوا بعد أن أدّوا صلاة الصبح في جماعة، صلاة الصبح التي غفل عنها الناس، وزهدو فيها وفي أجرها، زهدوا في بركة العيش في وقت البكور، زهدوا حلاوة الذكر من بعد صلاة الصبح حتي تطلع الشمس، بل ضيّعوه وناموا حتى تطلع الشمس ووضح النهار.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث يوما عن رجل من أصحابه أنه ينام الليل حتي يصبح، أي حتي ياتي وقت صلاة الصبح، فقال صلى الله عليه وسلم: “ذلك رجل بال الشيطان في اذنيه” ولقد كنت طوال عمري أظن ان الرجل كان ينام حتي تطلع الشمس، ثم بان لي فيما بعد المعني الصحيح لكلمة (حتي يصبح) أي حتي يطلع الصبح، فالرجل إذن كان ينام حتى طلوع الصبح، أي كان لا يقوم قبل ذلك من الليل ليصلي متهجدا بين يدي ربه.
وقد قال على بن أبي طالب، رضي الله عنه، في آخر حياته يخاطب أهل زمانه:
لولا الذين لهم ورد يقومــــــونا وآخرون لهم ســـــرد يصومونا
لدُكدكت أرضكم من تحتكم سحرا لأنكم قوم سوء لا تخافونا
يا إلهي!… هذا يقوله على بن أبي طالب رضي الله عنه، في زمن مضي، زمن شرف بأفضل الناس بعد رسله، زمن فيه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، الذين قال الله عنهم: ((والذين اتبعوهم بإحسان،رضي الله عنهم ،ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداٌ ذلك الفوز العظيم )).
ويقول على رضي الله عنه يوما قبل موته بأيام، يخاطب نفسه بعد أن صلّي الصبح وهو في محرابه قابضا لحيته:
(…… لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر اليوم شيئاٌ يشبههم! كانوا يصبحون شُعثا غُبرا، يراوحون من طول القيام بين أرجلهم وجباهم، فإذا طلع الصبح هطلت أعينهم بدموعهم، فابتلت بهم لحاهم، ومادو كما يميد الشجر في يوم ريح بين أعينهم مثل ركب المعزا، فكأني أصبحت والقوم غافلون….).
ماذا كنت تقول يا علي لو رأيت أصحاب هذا الزمن، الذين يصبحون منتفخين من كثرة النوم، أو محمرة عيونهم من شدة السهر، ربما في لهو أو معصية الله حتى قبيل الفجر، فإذا طلع الفجر ناموا كالجيف حتى قبيل الظهر أو إلي موعد العمل، بين أعينهم سواد من معصية الله تعالي…..!
نرجع إلى أبي وائل وأصحابه الذين ذهبوا إلى زيارة الحبر عبد الله بن مسعود، يقول أبو وائل: فسلمنا بالباب، فأذن لنا لنفتح أعيننا على أدب رفيع وخُلق سام، إنه أدب الاستئذان والاستئناس والتسليم، إنهم – أبو وائل واصحابه، ولشدة أدبهم وعلو همتهم – لم يقتحموا البيت لمجرد الإذن لهم بالدخول بل يقول: (فمكثنا بالباب هُنية) أي قليلا من الوقت، وفي رواية قال: (فمكثنا بالباب هُنيهة).
تري لماذا وقف أبو وائل وأصحابه هنية؟ إنهم – لشدة أدبهم – ظنوا أن يكون بعض أهل البيت نائماٌ في هذه الساعة، وهذا وارد بسبب عادة الكثير النوم في هذا الوقت.
ولكن محل العجب هو رد عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه بقوله: (أظننتم بآل ابن أم عبدٍ غفلةً؟) إذ بين لهم رضي الله عنه، بادئ ذي بدئ، أن نوم أحد من أهل بيته في هذه الساعة يُعد غفلة، وهذا لا يصحُ في آل ابن مسعود رضي الله عنه، وعندما خرجت لهم الجارية فأدخلتهم وجدوا الحبر رضوان الله عليه، مقبلا على ربه، يقول أبو وائل فإذا هو (أي عبد الله بن مسعود) جالس يُسبّح… يا له من درس عظيم! إنه التعليم بالقُدوة…
وبعد أن دخلوا واستفهم منهم في عدم دخولهم بعد أن أذن لهم، أقبل على ذكره، أقبل يُسبّح، إذ هذا غرضه وهَمّة الأكبر، التسبيح حتى تطلع الشمس… وانظر إلي قوله رضي الله عنه للجارية: يا جارية هل طلعت؟!
إنها تعرف ماذا يقصد؟… إنه يسأل عن طلوع الشمس، التي يجب أن تطلع وهو على ذكر، لا على غفلة، بدليل قوله بعد أن تأكد إنها طلعت: (الحمد لله رب العالمين الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يهلكنا بذنوبنا).
وعند سؤاله المرة الأولى، عندها عرف ان الشمس لم تطلع، أقبل مرة ثانية على تسبيحه وذكره، إنه قول المحاسب لنفسه، إنه عمل المستعد للموت ولقاء الله.
انظر إلى حسن إشارته بالنصح لصحبه عندما قال واحد منهم: لقد قرأت المفصل البارحة، والمفصّل هو من سورة (ق) إلي آخر القرآن.
كان الصحابة، رضوان الله عليهم، كما روي أبو داود في سُننه (باب تحزيب القرآن) قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزّبون القرآن؟ فقالوا: (ثلاث،وخمس،وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصّل وحده).
ومعني ثلاث أي ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، والنساء- وخمس: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة، وسبع: يونس ، وهود ، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، وتسع: الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور، والفرقان، وإحدى عشرة: الشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس، وثلاث عشرة: الصافات، و(ص)، والزمر، وغافر، وفصلت، والشوري والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، والقتال (يعني سورة محمد)، والفتح، والحجرات، وحزب المفصًل: من سورة (ق) إلى آخر القرآن.
يعني أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. كانوا يحزّبون القرآن سبعة أحزاب، والذي قرأه صاحب أبي وائل وذكره عند عبد الله بن مسعود، هو حزب المفصّل؛ أي من (ق) إلي آخر القرآن، وينقسم المفصًل إلي ثلاثة أنواع: طوال المفصل: من سورة (ق) إلى آخر سورة المرسلات. وأواسط المفصل: من سورة النبأ حتى أخر سورة الليل. وقصار المفصل: من سورة الضحي حتي أخر القرآن.
ثم يوجه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أصحابه، إلى حُسن تدبّر القرآن، وحُسن التلاوة بتمعن وتفكير، وجودة الأداء، كل ذلك يقوله عندما استفهم منهم: هذاً كهَذّ الشعر؟ فعبد الله بن مسعود، هو القائل المقولة التي حفظها التاريخ، ونقلها إلينا الرواة، وتناقلها أهل العلم وأهل الوعظ والإرشاد، على مر العصور: (ينبغي لحامل القرآن أن يَعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحُزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصَمته إذ الناس يصخبون وبخشوعه إذ الناس يختالون).