قصر أمير المؤمنين
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي
الحقيقة إن معظمنا لا يحفظ مما قاله سفير ملك الفرس أو الروم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه سوى عبارة (عدلت فأمنت فنمت…) وذلك عندما دخل المدينة وسأل عن قصر الخليفة؛ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يجد قصرا ولا حرسا، لكنه وجده نائما في ظل شجرة أو نخلة…
غير أن بعض كتب التاريخ حفظت لنا بعضا مما ترجم إلى العربية من كلام ذلك السفير الحكيم، الذي اندهش لما رأى الخليفة ينام في بردة قديمة تحت ظل شجرة أو نخلة في العراء، فسيطرت عليه عظمة ما رأى، وانبهر لما لا عهد له به؛ فعهده بملوك يعرفهم يخافون ذلك الخليفة الذي يقف مشدوها في حضرته؛ والحراس حولهم صفوف… وهذا لا يحرسه أحد…
مما يرويه المؤرخون من كلام ذلك السفير قوله وقد تملكته الدهشة والعجب… وخرج عن (بروتوكولات) رسل وسفراء الملوك إلى الملوك… وارتجل كلاما يعبر به عن ما في نفسه، ذاهلا عما جاء له…
فقال:
(… قد أذهلني ما أرى عن كل قول… دخلت مدينتكم وأنا أتساءل؛ أمن هنا خرجت تلك الجيوش التي غلبتنا…والآن تحولت هذه الدهشة خشوعا، والحيرة يقينا، والجهالة علما…
لا أتحدث بلسان أحد إلا لساني، ولا أنطق عن صدر أحد إلا صدري…
وقديما طلب الإنسان الحكمة وأضله الهوى… وقد يتعلم الإنسان من خصمه ما لا يتعلمه من صديقه…
رجل مثلك أيها الخليفة دوخ الملوك، وأعيى الجيوش، لا يقر للملوك قرار من هيبته، وتكون هذه حالته؟…
لكن ما العجب؟!… جار الملوك واستبدوا؛ فلا يزال أحدهم ساهرا خائفا يترقب…
وأنت أيها الخليفة؛ عدلت فأمنت فنمت…).
فبكى عمر رضي الله عنه طويلا…
لقد خرجت هذه الكلمات من فم ذلك السفير تعبيرا عن بعض مشاعره التي استدعاها ذلك المشهد المهيب لذلك الخليفة الذي دوخ الملوك وفتح البلاد وهابه القياصرة…
لقد انبهر السفير لانعدام الأبهة ومظاهر البذخ وشارات الترف حول رجل لو شاء لكان… فجرت هذه الكلمات العفوية على لسانه وذهل عما أرسل له.
وفي هذا يقول شاعر النيل؛ حافظ إبراهيم رحمه الله:
وراعَ صاحـــــــِبَ كسرى أن رأى عمـرًا
بين الرعــيةِ عُــــطْــلا وهو راعيها
وعهــــدُهُ بملـــــوكِ الفُرسِ أنَّ لــهـا
سورًا من الجندِ والأحراسِ يحميها
رآه مســــــتغرقا في نومـِـــهِ فـرأى
فيه الجــلالةَ في أســمــى معانيها
فوق الثرى تحت ظلِ الدَّوحِ مُشْتَمِلا
بِبُردَةٍ كـــاد طولُ العهدِ يُبليها
فهان في عينيه ما كــان يُكبِرُه
مـــن الأكـــاســـرِ والدنيا بأيديها
أمِنـت لمَّا أقمــت العـــدلَ بيـنَـهُمُ
فنمت نومَ قـريرِ العــــينِ هانيها
كما صور جلال الدين الرومي المشهد كله أروع تمثيل فنظم فيها قصيدة بالفارسية… ولا أدري- حتى ساعتي هذه- من ترجمها إلى العربية؛ فقال:
عبرة حارت لمعناها العقول
عن رسول الله في أرض الرسول
جاء يطوي البيد سعيا و الحضر
يسأل الأحياء عن قصر عمر
أين قصر ضم خير المالكين
والهدى والطهر و النور المبين
قصره لا شك مرفوع البناء
أنصفوا لو شيدوه في السماء
قال بعض الناس يا ضيف العرب
قصره فوق الدراري والذهب
لا تراه في الملا عَيْنُ البصر
بل تراه في العلا عين الفكر
في سماء المجد مرفوع المنار
ركنه زهد، وذل، وانكسار
التآخي فيه والعدل بناء
ومباني الناس غش ورياء
كل من أغلق عينيه هواه
فهو في الظلمة حاشى أن يراه
منزل الأرواح صدق ووفاء
منزل الأجسام لون وطلاء
ما لقلبي مات بالشكوى ينوح
إن قومي حالهم من قوم نوح
أسدلوا جهلا على النور حجابا
بل أصموا السمع واستغشوا ثيابا
إن نار الحقد في قلب الحسودِ
حرمته ظل جنات الخلودِ
ومضى الرومي في شوق عظيم
يسأل العابر عنه والمقيم
فأهاج الشوق منه والهيام
صوت أعرابية بين الخيام
تحت ذاك النخل في حصن حصين
حي مولانا أمير المؤمنين
قد تخلى عن جواد ومتاع
ينشد المنزل المرجى في بقاع
قال يا سبحانه رب الوجود
أين ذاك القصر أو أين الجنود؟
لم أكن من قبل أخشى قيصرا
لا ولا سطوة أسياد كسرى
فلماذا أوهن الخوف جناحي
من أمير نام في غير سلاح
أحصون يا الهي وقلاع
نتوارى خلف هاتيك الرقاع
من يخف سلطان ذي العرش المجيد
خافه كل قريب وبعيد
وبخوف الله فاز المؤمنون
حيث لا خوف ولا هم يحزنون
ملك العرب جميعا والعجم
نائم في غير جند أو حشم
عبرة تروى لجيل بعد جيل
نام ظل الله في ظل النخيل
وصحا الخطاب من بعد المنام
مثل صحوالشمس من بعد الغمام
أقبل الضيف وأهداه السلام
وسلام الود يتلوه الكلام
سأل الخطاب ذو الجاه العظيم
عن صفات المبدع البر الرحيم
تسكن الأرواح أجساد الأنام
وهي نور كيف تحيى في الظلام؟
قال سبوح إله الملكوت
فاطر السموات قدسي النعوت
أسكن الأرواح أوكار الصور
فاستجابت حين ناداها القدر
هذه الأرواح أطيار الجنان
فارقت أوطانها للامتحان
هي كالعطر طوته الزهرات
وهي كالفكر حوته الكلمات
إنما الألفاظ نطق ورسوم
والمعاني روح هاتيك الجسوم
هبطت من وقتها من لا زمان
وثوت في أرضها من لا مكان
عالم الغيب له السر المصون
أمره في خلقه كن فيكون
كلم الورد بسر فابتسم
عن أريج علم الطير النغم
وهو أيضا قال سرا للحجر
فجلا عنه عقيقا للنظر
وهو قد أفضى بسر للسحاب
فارتوت من فيضه حمر الهضاب
عندما أوحى بسر للتراب
صار إنسانا له الكون استجاب
ذلك العذب الفرات الهاطل
في فم الحيات سم قاتل
ليس يحبو جوهر العلم النقاء
غير أصداف قلوب الأولياء
جدد الخبز حياة ونماء
حينما أصبح للحي غذاء
متى أذعن للبحر سحاب
صار بحرا موجه طامي العباب
صاف محبوبك إن رمت الصفاء
وافنَ في المحبوب إن رمت البقاء
و تجلى سرُه للأنبياء
فتساموا فوق معراج السماء
كم عروس جليت للناظرين
وهي لا تهدى لكل الخاطبين
انزع الاصبع عن سمع اليقين
تستجب روحك للروح الأمين
فيد الجسم بها انشق الحجر
ويد الروح بها انشق القمر
قطر نيسان إذا ما أمطرا
في فم الأصداف أضحى جوهرا
كن جليس الأنبياء المرسلين
في كتاب الله رب العالمين.
فيا له من أمير، ويا له من قصر، ويا له من سفير!.