ليلـة الامتـحـــــــان
بقلم: ربيع عبد الرؤوف الزواوي
لفت نظري وجود مجموعة من الشباب يبدو عليهم من منظرهم أنهم طلبة في الجامعة، متواجدين بالصف الأول بالمسجد في صلاة الفجر، قد استولى معظمهم على الكراسي والمساند التي يستعملها كبار السن أو المرضى مثلي لدى انتظارهم ريثما يقام للصلاة، أو أثناء الاستماع للخطبة يوم الجمعة، وواضح أنهم دخلوا المسجد بمجرد فتح المؤذن من أجل الأذان.
لاحظت أن أحد هؤلاء الشباب بجانبه مذكرة مصورة، ذكرتني بمذكرات أيام الامتحانات التي يتداولها الطلبة عادة، وبعد أن صليت ركعتي السنة دققت النظر فوجدت عنوان المذكرة (ليلة الامتحان)! ولأن بيني وبين هذا النوع من المذكرات عداوة؛ لأني أعلم أنها جزء من أسباب تخلفنا العلمي المشين.
رحت أفكر في واقعنا التعليمي الأليم، ورحت استشرف جيلا يريد التعلم والعلم لذاته، وليس من أجل أن يحفظ كلاما ليلة الامتحان يصبه في ورقة الإجابة في الصباح ثم يعود، وبعد أيام ينجح وينتقل للسنة التالية، أو يتخرج ويتولى مكانا ما في هذا المجتمع؛ أي مكان.
ثم قلت يا ترى في أي تخصص هؤلاء الشباب؟ فأومأت برأسي قريبا من المذكرة فإذا موجود بأسفلها تحت كلمة ليلة الامتحان (أصول الفقه) أصول الفقه؟ إي والله أصول الفقه! وهل ينفع في تخصص مثل أصول الفقه أن يلم به الدارس من مذكرة هزيلة من عدة صفحات مثل مذكرات ليلة الامتحان؟ يعني ذلك أن هؤلاء الشباب ليسوا إلا طلبة في إحدى كليات جامعة الأزهر أو دار العلوم أو الدراسات الإسلامية في الكليات التي تدرس العلوم الشرعية.
تأكد لدي الأمر بعد الصلاة وانصرافنا، حيث تجمّع مجموعة منهم وساروا في نفس الطريق الذي أسير فيه راجعا لبيتي، استمعت حديثهم، ونقاشهم، وعرفت أنهم فعلا ليلة الامتحان في مادة أصول الفقه، وسمعت تعليقاتهم، وأسئلتهم بعضهم بعضا، وأدركت ضحالة مستواهم العلمي في هذا التخصص، من خلال ما يتفوهون به من كلام! وقلت في نفسي أكلمهم.. أنصحهم.. أساعدهم.. أتوقف معهم دقائق أساعدهم.. أرجع إليهم.. إلخ. ثم تذكرت حال ونفسية الطالب ليلة الامتحان، وأنه يكون غير مستعد لبلبلة أفكاره أو تشويه ذهنه، لاسيما السطحيون منهم! فغلبني تفكيري الأخير، فمضيت في طريقي ولم أنتبه إلا وأنا أضع المفتاح في باب البيت.
إن أصول الفقه علم دقيق وتخصص شريف، لا يدرس عن طريق هذا النوع من المذكرات، ولا أبالغ إن قلت أنه يعد من أقوى الدراسات الشرعية وأعقدها، وثمرته عظيمة وهي تخريج الفقهاء وصقلهم. ولا يعد الفقيه فقيها حتى يبرز فيه، ولا يسعه مهما درس في الفقه وتوسع فيه أن يستغنى عن أصول الفقه، فهو الذي يكسبه الملكة الفقهية، ويلهمه استنباط الحكم من النص، وكذا في إسقاط الحكم على الواقع عندما يستفتى في أمر ما.
إن كاتب هذه السطور قد كانت لديه همة كبيرة في صغره لدراسة هذا الفن من العلوم الشرعية، وكان لا يسمع عن كتاب في أصول الفقه إلا اقتناه وهضمه، لدرجة أنه صوّر بعض المخطوطات التي لم تطبع حتى اليوم في هذا التخصص من دار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات العربية، وحقّق بعضها، وسمع من مجموعة من العلماء فيه، ودرسه على مجموعة من العلماء، ودرّس فيه بعض الكتب، ولا يعد نفسه شيئا فيه، وقد مضى على ذلك أكثر من عشرين عاما! فكيف بهؤلاء المساكين؟
أعلم أن بعض التخصصات الشرعية كأصول الفقه تدرّس على طلبة الجامعة من كتب لا تتناسب مع المبتدئ مثلهم، والأساتذة ربما يكونون فوق مستوى هؤلاء الطلبة، أو غير مقصرين ولكن الطلبة لا يحضرون المحاضرات ويكتفون بمذكرات مختصرة من المعيدين أو عن طريق الدروس الخصوصية.
هذا حدث عابر ينبئ عن واقع مرير للتعليم في زماننا، الذي قادنا ويقودنا لمستقبل غير مأمول، ولن يكون بطبيعة الحال حل هذه المعضلة في يوم وليلة، ولكن أول طريق العلاج معرفة الداء!.