من واحة أدبنا العربي
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي
أبو إسحاق الألبيري واحد من أدبائنا الأندلسيين الكبار في القرن الخامس الهجري، وهو شاعر فحل لا يشق له غبار، وواعظ بليغ متمكن، لانت له الفصحى، وسهلت عليه الألفاظ، وخضعت له البلاغة، وانقادت له المعاني…
ومن عجب أن تكون جميع قصائده في غاية الوضوح والسهولة، ليس فيها تعقيد… فكانت كما يقال: من السهل الممتنع…
ولأبي إسحاق الألبيري أكثر من أربعين قصيدة، يتناول فيها الحكم والمواعظ… وأشهر قصائده قصيدته التي أثارت أهل صنهاجة، على الوزير اليهودي ابن نغزلة.
حيث اختلف أبو إسحاق الألبيري مع ملك غرناطة (باديس بن حبوس) وأنكر عليه اتخاذه وزيرا من اليهود اسمه ابن نغزلة… فنفاه الملك إلى ألبيرا، فألف في منفاه قصيدة شديدة اللهجة مطلعها: ألا قل لصنهاجة أجمعين… كانت هذه القصيدة سببا في ثورة أهل صنهاجة على الوزير اليهودي فقتلوه…
توفي أبو إسحاق الألبيري عام 490 ه.
ومن القصائد الماتعة الرائعة التي تركها لنا أبو إسحاق الألبيري قصيدته العصماء (من 112 بيت) التي كتبها لابنه أبي بكر يعظه فيها، ويحضه على طلب العلم، ويحذره من الدنيا وزخرفها…
يروى أن ابنه لما قرأها تأثر بها جدا فمات!…
ولذلك كان المربون الأفاضل، والمعلمون الأكفاء، والمخلصون في معاهد العلم والمدارس يقررونها على الدارسين والطلاب…
وقد سمعت العلامة الأصولي الدكتور محمود عبد الرحمن رئس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة جامعة الأزهر يقول في درس لطلاب الدراسات العليا: احفظوها… فقد حفظتها صغيرا… حفظتها في الاتوبيس… وأتحداكم أن يقرأها إنسان ولا يبكي… ولو أعادها قراءتها عشر مرات فسيبكي في كل مرة!…
أترككم مع رائعة أبي إسحاق الألبيري رحمه الله يخاطب ولده مباشرة فيقول:
تفتُّ فؤادَك الأيامُ فتـّا
وتنحِتُ جسمَك الأيامُ نحتا
وتدعوك المنونُ دعاءَ صدقٍ
ألا يا صاحِ أنت أريدُ أنتا
أراك تحبُ عِرساً ذات خدرٍ
أبتَّ طلاقـَها الأكياسُ بتـّا
تنام الدهرَ ويحك في غطيطٍ
بها حتى إذا متَّ انتبهتا
فكم ذا أنت مخدوعٌ وحتى
متى لا ترعوي عنها وحتى
أبا بكرٍ دعوتـُك لو أجبتا
إلى ما فيه حظك لو عقلتا
إلى علمٍ تكون به إمامًا
مطاعًا إن نـَهَيتَ وإنْ أمَرتا
ويجلو ما بعينِك مِن غِشاها
ويهديك الطريقَ إذا ضللتا
وتحملُ منه في ناديك تاجًا
ويكسوك الجمالَ إذا عرَيْتا
ينالُك نفعُه ما دمتَ حياً
ويبقى ذكرُه لك إن ذهبتا
هو العضبُ المهندُ ليس ينبو
تصيبُ به مقاتلَ من أردتا
وكنزٌ لا تخافُ عليه لصّـًا
خفيفُ الحمْل يوجدُ حيث كنتا
يزيدُ بكثرة الإنفاق منهُ
وينقصُ إن به كفاً شددتا
فلو قد ذقتَ مِن حلواه طـَعمًا
لآثرتَ التعلمَ واجتهدتا
ولم يشغلْك عنه هوىً مطاعٌ
ولا دنيا بزخرفها فـُتِنتا
ولا ألهاك عنه أنيقُ روضٍ
ولاخِدرٌ بزينتها كَلِفتا
فقوتُ الروح أرواحُ المعاني
وليس بأن طعِمتَ ولا شربتا
فواظبه وخذ بالجِدِ فيه
فإن أعطاكه الله انتفعتا
وإن أعطِيتَ فيه طولَ باعٍ
وقال الناسُ: إنك قد علمتا
فلا تأمن سؤالَ الله عنه
بتوبيخٍ: علمتَ فهل عملتا؟
فرأس العلم تقوى الله حقاً
وليس بأن يقال: لقد رأستا
وأفضلُ ثوبك الإحسانُ لكن
ترى ثوبَ الإساءةِ قد لبِستا
وإن ألقاك فهمُك في مهاوٍ
فليتك ثم ليتك ما فهمتا
ستجني من ثمار العجز جهلا
وتصغر في العيون إذا كبِرتا
وتُفقـَدُ إن جهِلتَ وأنت باقٍ
وتوجد إن علمتَ ولو فُقِدتا
وتذكرُ قولتي لك بعد حينٍ
إذا حقاً بها يوماً عمِلتا
وإن أهملتـَها ونبذتَ نصحًا
ومِلتَ إلى حطامٍ قد جمعتا
فسوف تعض من ندمٍ عليها
وما تغني الندامة إن ندمتا
إذا أبصرت صحبك في سماءٍ
قد ارتفعوا عليك وقد سفلتا
فراجعها ودع عنك الهوينا
فما بالبطء تدركُ ما طلبتا
ولاتختلْ بمالك والْهُ عنه
فليس المالُ إلا ما علمتا
وليس لجاهلٍ في الناسِ مغنٍ
ولو مُلك العراق له تأتـّى
سينطق عنك علمك في ملاءٍ
ويُكتب عنك يوماً إن كتمتا
وما يغنيك تشييد المباني
إذا بالجهل نفسَك قد هدمتا
جعلتَ المالَ فوق العلم جهلاً
لعمرُك في القضية ما عدلتا
وبينهما بنص الوحي بَوْنٌ
= ستعلمه إذا طه قرأتا
لئن رفع الغني ُ لواءَ مالٍ
لأنت لواءَ علمك قد رفعتا
لئن جلس الغنيُ على الحشايا
لأنت على الكواكب قد جلستا
وإن ركبَ الجيادَ مسوماتٍ
لأنت مناهجَ التقوى ركبتا
ومهما افتض أبكارَ الغواني
فكم بكرٍ من الحِكَمِ افتضضتا؟
وليس يضرك الإقتارُ شيئاً
إذا ما أنت ربَك قد عرفتا
فماذا عنده لك من جميلٍ
إذا بفِناءِ طاعته أنختا
فقابل بالقبولِ لنـُصحِ قولي
فإن أعرضتَ عنه فقد خسرتا
وإن راعيتـَه قولاً وفعلاً
وتاجرتَ الإلهَ به ربِحتا
فليست هذه الدنيا بشيءِ
تسوؤك حِقبةً وتسرُّ وقتا
وغايتها إذا فكرتَ فيها
كفيئك أو كحلمك إن حلمتا
سُجنتَ بها وأنت لها محبٌ
فكيف تحب ما فيه سُجنتا
وتطعمك الطعامَ وعن قريبٍ
ستـَطعَمُ منك ما فيها طعِمتا
وتعرى إن لبِستَ بها ثيابًا
وتُكسى إن ملابسَها خلعتا
وتشهدُ كلَ يومٍ دفن خلٍّ
كأنك لا تُرادُ لما شهِدتا
ولم تُخلَق لتعمرَها ولكن
لتعبُرَها فجِدّ لما خُلِقتا
وإن هُدِمَت فزدها أنتَ هدماً
وحصّن أمرَ دينِك ما استطعتا
ولا تحزن على ما فات منها
إذا ما أنت في أخراك فزتا
فليس بنافعٍ ما نلتَ منها
من الفاني إذا الباقي حُرِمتا
ولا تضحك مع السفهاء يوماً
فإنك سوف تبكي إن ضحكتا
ومن لك بالسرور وأنت رهنٌ
وما تدري أتـُفدى أم غـُلِلتا
وسل من ربك التوفيق فيها
وأخلصْ في السؤال إذا سألتا
ونادِ إذا سجدتَ له اعترافًا
بما ناداه ذو النون ابن متى
ولازم بابه قرعاً عساهُ
سيفتحُ بابَه لك إن قرعتا
وأكثِرْ ذكرَه في الأرضِ دأبًا
لتـُذكَرَ في السماءِ إذا ذَكَرتا
ولا تقلِ الصّبا فيه امتهالٌ
وفكّرْ كم صغيرٍ قد دفنتا
وقل: يا ناصحي بل أنت أوْلى
بنصحِك لو لفعلك قد نظرتا
تـُقـَطِّعُني على التفريطِ لوماً
وبالتفريطِ دهرَك قد قطعتا
وفي صِغَري تُخَوِّفني المنايا
وما تدري بحالك حيثُ شِختا
وكنتَ مع الصِبا أهدى سبيلاً
فمالك بعد شيبك قد نكثتا
وها أنا لم أخض بحر الخطايا
كما قد خضتـَه حتى غرقتا
ولم أشرب حميّا أمِّ دَفرٍ
وأنت شربتها حتى سكرتا
ولم أنشأ بعصرٍ فيه نفعٌ
وأنت نشأت فيه وما انتفعتا
ولم أحلـُلْ بوادٍ فيه ظلمٌ
وأنت حللتَ فيه وانتهكتا
لقد صاحبتَ أعلاماً كباراً
ولم أركَ اقتديتَ بمن صحبتا
وناداك الكتابُ فلم تـُجبهُ
ونبّهك المشيبُ فما انتبهتا
ويقبُحُ بالفتى فعلُ التصابي
وأقبحُ منه شيخٌ قد تفـَتـّا
ونفسَك ذُمَّ، لا تذمُمْ سواها
لعيبٍ فهي أجدرُ مَن ذممتا
وأنت أحق بالتفنيد مني
ولو كنتَ اللبيبَ لما نطقتا
ولو بكتِ الدما عيناك خوفًا
لذنبك لم أقل لك قد أمِنتا
ومن لك بالأمان وأنت عبدٌ
أُمِرتَ فما ائتمرتَ ولا أطعتا
ثقـُلتَ من الذنوبِ ولست تخشى
لجهلك أن تخِفَّ إذا وُزِنتا
وتـُشفِقُ للمصرِّ على المعاصي
وترحمه ونفسَك ما رحمتا
رجعتَ القهقرى وخبطتَ عشوى
لعمرُك لو وصلتَ لما رجعتا
ولو وافيتَ ربَك يوم نشرٍ
ونوقشتَ الحسابَ إذاً هلكتا
ولم يظلمْك في عملٍ ولكن
عسيرٌ أن تقومَ بما حملتا
ولو قد جئتَ يومَ الحشر فردًا
وأبصرتَ المنازلَ فيه شتا
لأعظمتَ الندامةَ فيه لهفاً
على ما في حياتك قد أضعتا
تفرُ من الهجيرِ وتتقيهِ
فهلاّ من جهنمَ قد فررتا
ولستَ تطيقُ أهْوَنها عذابًا
ولو كنتَ الحديدَ بها لذُبتا
ولا تـُنكِرْ فإن الأمرَ جِدٌ
وليسَ كما حسبتَ ولا ظننتا
أبا بكرٍ كشفتَ أقلّ عيبي
وأكثرُه ومعظمُه سترتا
فقل ما شئتَ فيّ من المخازي
وضاعفها فإنك قد صدقتا
ومهما عِبتـَني فلفرطِ علمي
بباطنه كأنك قد مدحتا
فلا ترضَ المعايبَ فهي عارٌ
عظيمٌ يورثُ المحبوبَ مقتا
ويهوي بالوجيه من الثريا
ويُبْدِله مكان الفوق تحتا
كما الطاعات تـُبْدِلـُك الدراري
وتجعلـُك القريبَ وإن بعُدتا
وتنشرُ عنك في الدنيا جميلاً
وتلقي البرَ فيها حيث شئتا
وتمشي في مناكبها عزيزًا
وتجني الحمدَ فيما قد غرستا
وأنت الآن لم تـُعرَف بعيبٍ
ولا دنّسّتَ ثوبَك مذ نشأتا
ولا سابقتَ في ميدانِ زورٍ
ولا أوضعتَ فيه ولا خببتا
فإن لم تنـْأَ عنه نشِبتَ فيهِ
ومَن لك بالخلاصِ إذا نشِبتا
تدنِّسُ ما تـَطهّرَ منك حتى
كأنك قبلَ ذلك ما طهُرتا
وصرتَ أسيرَ ذنبِك في وثاقٍ
وكيف لك الفكاكُ وقد أسِرتا
فخف أبناءَ جنسِك واخش منهم
كما تخشى الضراغمَ والسبَنتا
وخالطهم وزايلهم حِذارًا
وكن كالسامريِ إذا لُمِستا
وإن جهِلوا عليك فقل سلامٌ
لعلك سوف تسلمُ إن فعلتا
ومَن لك بالسلامةِ في زمانٍ
تنالُ العِصْمَ إلا إن عُصِمتا
ولا تلبث بحيٍّ فيه ضيمٌ
يُمِتُّ القلبَ إلا إن كُبِلتا
وغرِّبْ فالتغرُبُ فيه خيرٌ
وشرِقْ إن بريقِك قد شرِقتا
فليس الزهدُ في الدنيا خمولاً
لأنت بها الأميرُ إذا زهدتا
ولو فوق الأمير يكون فيها
سُمواً وارتفاعاً كنتَ أنتا
فإن فارقتـَها وخرجتَ منها
إلى دار السلام فقد سلِمتا
وإن أكرمتـَها ونظرتَ فيها
لإكرامٍ فنفسَك قد أهنتا
جمعتُ لك النصائحَ فامتثلها
حياتَك فهي أفضلُ ما امتثلتا
وطوَّلْتُ العتابَ وزدت فيهِ
لأنك في البطالةِ قد أطلتا
ولا يغررك تقصيري وسهوي
وخذ بوصيتي لك إن رشدتا
وقد أردفتـُها ستّـًا حِسانًا
وكانت قبل ذا مائةً وستا
وصلِ على تمامِ الرسلِ ربي
وعترته الكريمة ما ذكِرتا