هؤلاء القرّاء رحمهم الله حفروا ذاكرتي وشكلوا وجداني
بقلم ربيع عبد الرؤوف الزواوي
تفتّحت عيناي منذ الصغر في أسرة محافظة تهتم بالاستماع إلى القرآن في إذاعة القرآن الكريم مرتلا ومتلوا بالتجويد بأصوات كبار القراء رحمهم الله جميعا.
وأول ما أتذكره من هذه المشاهد التي حُفرت في سويداء الذاكرة هو ما كان يفعله الوالد رحمه الله عند استماعه للقرآن الكريم من المذياع – الذي يكون غالبا قد ضعُفت حجارته وانخفض صوته مهما رُفع زر المذياع المخصص لرفع الصوت عاليا – حيث يضع المذياع على إحدى أذنيه أو يقترب هو من المذياع وذلك لثقل في سمعه مرددا كلمة (معلوم).
كانت هذه الكلمة منه رحمه الله أول سهم تم إطلاقه ناحية عقلي وقلبي ووجداني حاملا معه إشارة بأهمية هذا الشيء المتلو الذي يستمع الوالد إليه بخشوع وتأثر فطريين، وأن له شأنا وخطرا، وأنا إذ ذاك لم أبلغ سن الالتحاق بالمدرسة، أتصور في حدود الخامسة من عمري. فصدق الله جل شأنه القائل: وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا.
كما كانت لحلاوة صوت الشيخ محمد رفعت رحمة الله يوميا في السابعة صباحا – ولا تزال إلى اليوم – تأثير سحري، لا سيما لدى اختلاطها مع شقشقة العصافير بالأشجار وغيرها من الطيور، وصوت الطيور التي تربيها الوالدة رحمها الله بالمنزل لنأكل من لحمها… كان لهذه المنظومة المتعانقة والمتناغمة أثر بالغ في تشكيل الوجدان، والتأثر بجمال الأصوات، والمقامات والألحان… فبعض الناس جامد الحس جاف الوجدان، لا فرق عنده بين صوت الكروان، وصوت القطار على القضبان… والله وحده المستعان.
فكاتب هذه السطور مفطور على التمييز بين الأصوات بصورة مستغربة أحيانا، ويتأثر بالغ الأثر بعذوبة الأصوات وحلاوة الأداء… ولولا عناية الله وحفظه لتاه بسبب ذلك في دروب الحياة وغياهب الضلال.
كان كذلك من أوائل ما حُفر في الذاكرة وشكّل الوجدان وربط القلب والأذن بالقرآن؛ أن الوالدة رحمها الله كانت تحب الاستماع لثلاثة من كبار القراء بالإذاعة وهم الشيخ كامل يوسف البهتيمي رحمه الله والشيخ عبد العظيم زاهر رحمه الله والشيخ عبد العزيز علي فرج رحمه الله… ولا شك أن كل واحد منهم مدرسة وحده وطرازا فريدا… تحققت من ذلك بعدما كبرت وخبرت الأمور جيدا.
كما كان لصوت الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي رحمه الله الذي حكى لي أحد الأصدقاء أن والده كان يسميه (فلاح قرآن) مع صوت الشيخ محمد الصيفي رحمه الله وصوت الشيخ محمد فريد السنديوني رحمه الله وصوت الشيخ على محمود رحمه الله وصوت الشيخ محمود عبد الحكم رحمه الله والشيخ طه الفشني رحمه الله – أكبر الأثر أيضا في تشكيل الوجدان والعلاقة بالقرآن. ولا تزال أصواتهم ببعض الآيات في هذه السن المبكرة يشكل عندي الآن حالة من الخشوع غير المتكلف والحنين لذلك الماضي كلما مررت بهذه الآيات في المصحف أو سمعتها بأصواتهم رحمهم الله أو من غيرهم.
تم في السنوات الخمس الأولى حفظ بعض السور القصيرة بطريقة غير ممنهجة أو منظمة، وأظن أن أول سورة حفظتها هي سورة الإخلاص ثم الفاتحة ثم الناس ثم الفلق ثم العصر ثم الفيل… ولا أذكر من حفظني؛ الوالدة أو من يكبرني من إخوتي أو هؤلاء القراء رحمهم الله.
لم يكن التعليم العام وقتها – كما هو الحال الآن – يشترط شيئا معينا من القرآن الكريم على التلميذ قبل أن يلتحق بالمدرسة بالصف الأول الابتدائي… ولكن تضع في المقرر الدراسي سور معينة بدون إلزام بحفظها.
تفاجأت أني بحفظي لهذه السور القصيرة القليلة أبُزّ أقراني ومعدود من النابهين بالصف الأول الابتدائي، فصار يشار إليّ بين زملائي… وكان هذا هو السهم الثاني في وجداني لخطورة القرآن وعظم شأنه وشأن تاليه وحافظه.
ثم كان السهم الثالث عندما تم اختياري وأنا بالصف الثالث الابتدائي لتلاوة الآية في طابور الصباح، وكانت آية: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا…الآية.
تتابع الاهتمام بشأن القرآن والحفظ فيما بعد بقدر ما تتيحه الحياة الريفية البسيطة، وربما تبعا للمقرر في المدرسة في كتاب التربية الدينية، ولم يقدر الله لي أن ألتحق بـ(الكُتّاب) للحفظ المنتظم على يد شيخ… ومع الأيام ومضي الوقت دخلت أسماء جديدة لقائمة القراء؛ على رأسهم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله والشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله والشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله والشيخ محمود علي البنا رحمه الله. كما بدأت أعقل معاني ما يتلى علي من الآيات.
وأتذكر أول مرة أتأثر بآيات تتلي على مسامعي حتى البكاء كانت في قول الله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي….) الآيات بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله في إحدى التسجيلات الخارجية المسجلة بإذاعة القرآن الكريم. ولعل الحياة الريفية سبب بالغ للتأثر المبكر بمثل هذه الآيات التي تلفت الأنظار إلى بناء السماء ومد الأرض وإلقاء الجبال.
ثم كان للوالد فيما بعد اهتمام ملحوظ بصوت الشيخ الطبلاوي عندما ظهر بالإذاعة وذاع صيته فكان يستمع إليه بإنصات وتمعن وكان يقرأ كل ليلة سبت الساعة الثامنة مساء بإذاعة القاهرة. فأعجبني تلاوت بعينها لهذا القارئ منها أيات سورة الأحزاب: إن المسلمين والمسلمات… الآية.
كان للتلاوات الخارجية المسجلة والتي تذاع بإذاعة القرآن الكريم دور كبير في إيجاد الرغبة في حفظ بعض السور الطوال مثل سورة مريم والأحزاب والنمل وربما وصل الطموح إلى سورة المائدة! بسبب آيات حفرت في الوجدان آنذاك بأصوات هؤلاء القراء رحمهم الله. وقد كان… فقد بدأت الرغبة تتحول إلى واقع وبدأت في حفظ سور طويلة وأجزاء متقطعة من سور أخرى.
كما تطور الأمر للمعرفة المبدئية بعلم القراءات، وكان أيضا للوالد رحمه الله السهم الأول في هذا المجال!!! فقد سمعته مرة يقول: الشيخ فلان يقرأ بالسبعة! يقول: هل أتاك.. هل أتيك… يقصد رحمه الله من قرأ المد بالإمالة من القراء العشرة، وكان هذا بداية الاهتمام بالقراءات.
ومن المحفور في الذاكرة كذلك ما يكون من القراءة التي تكون قبيل المغرب بإذاعة القرآن الكريم في شهر رمضان سواء للشيخ محمود علي البنا أو الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أو الشيخ المنشاوي أو الشيخ مصطفى إسماعيل وغيرهم… ومن هذه الذكريات كذلك أن أحد أقاربي كان يضع شريطا على مكبرات الصوت بالمسجد قبيل الأذان كل صلاة للشيخ شعبان الصياد رحمه الله يقرأ فيه من سورة آل عمران بصوت جميل وبطريقة رائعة…
كما كانت للتلاوات التي نسمعها في الصغر من سرادقات العزاء الأثر الأكبر في حفظ العديد من الآيات والسور في سن مبكرة، لا سيما أن هذه السرادقات كانت فيما مضى تستمر ثلاثة أيام، ثم صارت يومين ثم يوما واحدا.. ثم انقرضت في بعض الأماكن ولم تعد موجودة لدى بعض العقلاء والعارفين لحقيقة الأمر.
كنا ونحن صغارا في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية يأتي الوالد بين الحين والآخر ويطلب من أحدنا أن يقرأ له ما يتيسر من المصحف، وكان ذلك الأمر – فيما أظن – هو التقييم الدوري لديه. فإن قرأ أحدنا بغير تلعثم اطمأن وتفاءل ودعا له… وإن تلعثم وتلكأ عرف ضعف مستواه وإهماله لدراسته.
وأما عن المصحف نفسه فأول ما تفتحت عيناي على مصحفين قديمين ورقهما أصفر وغلافهما بني اللون بورق سميك مغلف بقماش أعدته الوالدة بنفسها بطريقة جميلة، وتشي بالقدسية والاحترام، وأتذكر أنهما كانا يوضعان في كوة بحائط غرفة استقبال الضيوف في الريف والتي تعرف لليوم في الريف بـ(المندرة) وكان أحدهما أكبر من الآخر ويسمونه كما أتذكر بـ(الختمة الكبيرة) والثاني أصغر حجما وعددا في الورق ويسمى بـ(الختمة الصغيرة) ولعلهما كانا خاصين بأخي الأكبر والذي يليه، وكان كل من مس أو تناول أحدهما قبله وأخذه باحترام وتأدب ووضعه مكانه بنفس الطريقة… وكان ذلك الأمر يمثل عندي نوعا من التنبيه لشأن وخطر هذا الكتاب الكريم.
كما كان للوالد رحمه الله اهتمام كبير بأن يحفظ أولاده القرآن الكريم، ولذلك سارع بإلحاق أخوَيّ الكبيرين بـ(الكُتّاب) حيث لم تكن المدرسة الابتدائية وجدت بالقرية آنذاك، ولما وجدت المدرسة سارع بإلحاقنا بها مؤملا أن نحفظ القرآن، وكان يكثر من ترديد بعض العبارات على أسماعنا في سن مبكرة، أتذكر من هذه العبارات: العلم نور… التعليم أهم شيء… ياريت أبويا قطع دراعي وكان علمني… وغير ذلك… ولا ينسى أن يلفت أنظارنا للمقصود من العلم فكان أيضا يردد: الأدب فضّلوه على العلم… ومما حكي عنه رحمه الله أنه تعسّر ذات مرة في سداد شهرية محفظي (الكُتّاب) وهو مبلغ زهيد، فلم يجد بُدا – بسبب قلة ما في يده من مال – أن يعطيهم حَبا مدخرا للبيت كما هي عادة أهل الريف؛ بدلا من هذا المبلغ.
ثم جاءت مرحلة الجامعة وهي أهم المراحل في حياتي شخصيا، وقد قرر كاتب هذه السطور – وقتها – أن يكمل حفظ القرآن الكريم، فلم يجد صعوبة تذكر في هذا الأمر؛ لقوة الدافع واستعداد الطبع وسهولة القراءة، فلا أتذكر تلعثما أو تتعتعا في قراءة شيء من القرآن كبقية طلاب الجامعة، لا سيما من في الكليات العملية ولم يتح له حفظ القرآن في الكتاتيب… فالحمد لله وحده ورحم الله من كان سببا في ذلك سواء الوالد أو الوالده أو من يكبرني من إخوتي أو هؤلاء القراء رحمهم الله.
وكان للتدين والالتزام بالسنة في فترة الجامعة مع فورة الشباب وقوة الرغبة أكبر الأثر في كثرة ختم القرآن في أيام قليلة، لا سما في شهر رمضان الكريم، حيث ربما كان يُقرأ كل أسبوع مرة على الأكثر، وفي غير رمضان ربما كان مرتين في الشهر ومرة على الأقل في أضعف حالاته… فكان لهذه الفترة الأثر الأكبر في اتقان قراءة القرآن؛ فلله وحده الحمد.
كما كان لإمامة الناس في الصلوات بمسجد القرية في سن مبكرة في الصف الأول الثانوي الأثر القوي أيضا في ذلك الارتباط بالقرآن، واستمرت إمامة الناس إلى ما بعد التخرج من الجامعة بسبع سنوات… حوالي خمسة عشر عاما كان لها دور كبير في التعلق والارتباط بالقرآن الكريم فالحمد لله على نعمته وفضله… وكان ذلك الارتباط سبب في أن يكون الاهتمام بعلوم القرآن أكثر من غيره، وما (تحفة الناظرين في القرآن المبين) و (معجم معاني ألفاظ القرآن) و (معجم الأسماء التي وردت في القرآن) و (تاريخ المصاحف) إلا ثمرة من ثمار هذا الارتباط بهذا الكتاب الكريم … فلله وحده الحمد.
إلى أن ابتلينا بالحياة العملية وما أرغمنا على معافسته من أعمال وعلاقات وأسفار… حيث تكون أوقات الاستماع لهؤلاء القراء رحمهم الله مذاقا خاصا ونعيما آخر نلتذ به بين الحين والآخر… لا سيما بعد ظهور أصوات جديدة محبوبة واكتشاف تسجيلات جديدة لم تكن ظهرت فيما مضى من الوقت بسبب الإنترنت وما أتاحته من فرص الانتشار ووفرته من مواد صوتية نادرة لهؤلاء القراء رحمهم الله. ومن هؤلاء القراء الذين أضيفوا لتلك القائمة من القراء المتقدمين؛ الشيخ حمدي الزامل رحمه الله والشيخ عبد العزيز حصّان رحمه الله والشيخ أبو العينين شعيشع رحمه الله والشيخ عبد الفتاح الطاروطي والشيخ راغب مصطفى غلوش والشيخ محمود الخشت والشيخ فرج الله الشاذلي والشيخ حجاج الهنداوي والشيخ فاروق ضيف…
كما ظهرت في غير مصر أصوات تركت بصمة في عالم القراءة والتلاوة… ومن هذه الأصوات صوت الشيخ علي جابر والشيخ الشريم والشيخ السديس والشيخ عبد الله الجهني من أئمة الحرم المكي، والشيخ مشاري العفاسي والشيخ خالد القحطاني والشيخ سعد الغامدي، وغيرهم…
وبمناسبة ذكر صوت الشيخ خالد القحطاني؛ أتذكر أن أحد إخوتي أسمع الوالد رحمه الله في آخر أيامه شريطا له يقرأ فيه سور: الرحمن والواقعة والحديد، وكان هذا آخر عهدي به رحمه الله في علاقته مع القرآن، فظل رحمه الله يستمع حتى إذا انتهت التلاوة، فإذا هو في حال غير التي كان عليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع لحلاوة الصوت وقوة الآيات…
جزى الله هؤلاء القراء جميعا خيرا على ما أحدثوه من ثورة في انتشار كتاب الله… فقد وجدت شرائط لهم في الصين وحدثني أحد الأصدقاء الذين عاشوا في روسيا أيام الاتحاد السوفيتي أن جارة له روسية كانت تستمع للشيخ عبد الباسط عبد الصمد وتسميه (كراون) تقصد الكروان، وهو الشيء نفسه الذي حدثني به أصدقاء لي في ألمانيا وهولندا.
وقد شاهدت في منتصف التسعينات تسجيلات بالتلفزيون القطري للشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله لم أسمعها ولم أشاهدها من قبل، غاية في الروعة، وكانت هي أول عهدي بأن أتعلق بالاستماع للشيخ الحصري الذي كنت لا أكثر ولا أهتم بالاستماع له من قبل.
أي خير يعلمه الله تعالى في قلوب هؤلاء القراء رحمهم الله، بأن منحهم هذا الأثر الطيب بعد موتهم؛ حيث يُختم القرآن بأصواتهم في إذاعة القرآن الكريم شهريا، وفي عشرات – بل مئات – الإذاعات والقنوات الفضائية!؟… هؤلاء القراء… رحمهم الله.