الإمام ابن حزم… عربي وليس إسبانيا
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي
في حوالي عام 1841م اكتشف المستشرق الهولندي (دوزي) الباحث في تاريخ الأندلس ومؤلف كتاب (تاريخ مسلمي الأندلس) مخطوطا قديما لكتاب طوق الحمامة للعلامة الأديب الفقيه المجتهد ابن حزم الأندلسي رحمه الله…
ولما اطلع (دوزي) على الأسلوب الأدبي الراقي لابن حزم رحمه الله في قصته وهو شاب مع جاريته نُعْم (بضم النون وإسكان العين المهملة) وحبه لها وحزنه على موتها ووفائه النادر لها… ألهمه شيطانه أن العرب لا قبل لهم بهذا النوع من الحب والعفة… وأن ابن حزم ليس عربي الأصل! إنما أصوله إسبانية وأنه من المولدين!
ولا بأس أن أنقل لحضراتكم كلام ابن حزم في قصته مع جاريته نصا من كتاب طوق الحمامة، الذي استحق عليه – من وجهة نظر (دوزي) – بجدارة الجنسية الإسبانية… يقول رحمه الله:
(… كنت أشد الناس كلفا وأعظمهم حبا بجارية لي كان فيما خلا، اسمها نعم، وكانت أمنية المتمني، وغاية الحسن خلقا وخلقا، وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسني حين وفاتها دون عشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي، وﻻ تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها.
وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطريف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعا طائعا، وما طاب لي عيش بعدها، وﻻ نسيت ذكرها، وﻻ أنست بسواها…).
استكثر (دوزي) هذا الوفاء النادر، وهذا الحب الراقي، وهذه المشاعر الرقيقة على واحد من عباقرة الدنيا، الذي قل أن يجود الزمان بمثله… وراع المسكين هذا الضرب من مكارم الأخلاق ونبل المشاعر… فغرته نفسه، ووسوس له شيطانه بأن هذا الرجل ليس بعربي!…
ويسطر (دوزي) هذه الوساوس في كتابه (تاريخ مسلمي الأندلس) فيقول:
(… يلاحظ دونما شك في هذه القصة ملامح عاطفية رقيقة غير شائعة بين العرب الذين يفضلون بصفة عامة الجمال المثير والعيون الفاتنة والابتسامة الآسرة.
والحب الذي كان يحلم به ابن حزم يختلط دون ريب بما هو حسي جذاب… لكن يجب أن لا ننسى أن كل هذه المشاعر الأكثر عفة، وأكاد أقول الأكثر مسيحية، من الشعراء المسلمين، ليس عربيا خالص النسب، وإنما هو حفيد إسباني مسيحي، لم يفقد كلية طريقة التفكير والشعور الذاتية لجنسه.
هؤلاء الإسبان المتعربون يستطيعون أن يهجروا دينهم، وأن يبتهلوا بمحمد بدل المسيح(!) وأن يلاحقوا بالسخرية إخوانهم القدامى في الدين والوطن، ولكن يبقى دائما في أعماق أرواحهم شيء صاف رهيف وروحي غير عربي…).
أقول: … سبحان الله… يا لكم الكذب والتزييف والاستعلاء أيها المستشرق الماكر العجيب…
وطبعا… تلقف الباحثون الإسبان كلام هذا المستشرق المزيف وطاروا به سعداء فرحين… ورأوا أن ابن حزم يستحق الجنسية الإسبانية عن جدارة…
كما تلقفه جماعة من خصوم ابن حزم رحمه الله في المذهب من المسلمين والعرب أنفسهم… إيغالا في الحقد، وإيقادا لنار العداوة، تشفيا في الرجل وانتقاما… على ما لاقوه من شدة سببها طبعيا وخلقة في الرجل… وتفوق أحيانا أعياهم دفعه وصده… فنفخوا – من أسف – في هذه الفرية البلهاء… وهذا لعمري سبيل غير سبيل المنصفين.
مما دفع – على النقيض – جماعة من المنتمين مذهبيا لابن حزم رحمه الله، ضخموا اﻷمر وشددوا النكير على مخالفيه مذهبيا، ووقعوا فيما انتقدوه على خصومه… وهذا – أيضا – ليس بسبيل المنصفين.
والحق يقال أن جماعة من الأدباء والمؤرخين تصدوا لهذه الفرية وغيرها من الفرى فنسفوها من أصولها…
كما كان من أساتذتنا الفضلاء المعاصرين جماعة كافحوا ودافعوا عن عربية وإسلامية قضية، بل قضايا الأندلس بعامة… وعلى رأس هؤلاء ممن أعرفهم الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي… وهو علم غني عن التعريف… وأستاذنا الحبيب الدكتور جمال عبد الرحمن أستاذ الأدب الإسباني بجامعة الأزهر وفقه الله وزاده من فضله.
وآخر وأحدث هذه الجهود مقال الأستاذ جهاد فاضل في مجلة العربي هذا الشهر ديسمبر 2014 تحت عنوان عروبة ابن حزم… الذي يقول في آخره:
(… المهم أن كل محاولات بعض المستشرقين الإسبان وغير الإسبان في انتزاع ابن حزم وبقية رفاقه علماء وأدباء الأندلس من عروبتهم وإلحاقهم عنوة بالتراث الإسباني، ذهبت استنادا إلى ما تقدم أدراج الرياح… لقد كان ما كتبوا فاقدا للعلمية لأكثر من سبب، وبخاصة لربطهم العذرية بدين من الأديان، وحجبها عن أبناء دين آخر…).
إنهم – يا سادة – يزيفون أدبنا… كما يزيفون تاريخنا… فانتبهوا رحمكم الله.