في رحاب الشيخ أبي إسحاق الحويني
بقلم: ربيع عبد الرؤوف الزواوي
يشغلني هذه الأيام (كان ذلك في مايو 2010) جدا؛ ما تواتر من خبر حول مرض أستاذنا الفاضل العلامة المحدث الشيخ أبي إسحاق الحويني شفاه الله وعافاه، وبارك في عمره ونفع به الإسلام والمسلمين، لدرجة أني أحيانا أسترسل في تفكير أسأل الله أن لا يتحقق؛ وهو ماذا لو فقدنا هذا الرجل؟ وأقول أحيانا في نفسي: لو يصلح أن أعطيه من عمري؟ ثم أفيق على وقع مطارق حكمة العلي الأعلى.
ألمّ المرض بالشيخ في شعبان 1430 فأوقفه عن مزاولة نشاطه العلمي والدعوي، وأقعده عما تعوّده سنين طويله، ولم يرتق المنبر إلا في غرة شهر الله المحرم 1431 وخطب خطبة قصيرة بأحد مساجد كفر الشيخ أبكت المصلين وكل من استمع إليها مسجلة، وكان واضحا عليه فيها أثر الإجهاد والتعب، ووعظ يومها كأنه يودع الناس، وقد استمعت هذه الخطبة القصيرة الوجيزة البليغة فأدمت القلب والعين، فاللهم عجل شفاءه وعافه واعف عنه.
الشيخ أبو إسحاق طراز وحده، والملايين الذين يشاهدونه يدركون ذلك، هذا الرجل إمام هدى، وكنز غال، دفع الله به جزءً غير يسير من غربة هذا الدين في هذا الزمن، وإني لأعتبره الشامة بين مشايخ هذا الزمن، والرئيس بلا منازع.
كثيرون ممن عرفوا الشيخ أبا إسحاق الحويني من خلال الفضائيات التي انتشرت منذ سنوات قليلة، لا يعرفون إلا القليل عن الرجل، سواء في علمه أو في سمته ودلّه، إنه من خلال الدروس التي يقدمها في الفضائيات يحاول أن يبسط الأمور بحيث تتماشى وتتلاءم مع عقول ملايين المشاهدين.
في السنة الثانية من دراستي الجامعية بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية وكان ذلك في عام 1987 ؛ سمعت عن الشيخ أبي إسحاق الحويني بعد رجوعه من سَـفرته للشيخ الألباني رحمه الله، من أحد زملائنا واسمه أسامة وكان في كلية الصيدلة جامعة الإسكندرية، وكان جارا للشيخ، أي كما نقول هذه الأيام (بلدياته) بإحدى قرى محافظة كفر الشيخ، فوجدتني مندفعا برغبة غير عادية للسفر مع هذا الزميل لرؤية ولقاء الشيخ أبي إسحاق الحويني، وقد كان، وسافر معي للقائه الدكتور مجدي شمس الدين، وكان أيامها في سنينه الأولى أيضا بالدراسة بكلية الطب جامعة الإسكندرية.
يا سبحان الله؛ ثلاثة طلبة بكليات علمية، يسميها الناس هذه الأيام، كليات القمة، يسافرون سويا للقاء الشيخ أبي إسحاق الحويني الذي كان يومها في عز شبابه وفورة قوته، ولا يجمعنا إلا أمران؛ أولهما أننا طلبة متدينون أو كما يقول الناس ملتزمون، وثانيهما أننا صعاليك ربما لا نملك أجرة السفر من الإسكندرية إلى محافظة كفر الشيخ بوسيلة سفر مناسبة أيامها.
وصلنا لبلد الشيخ، ونزلنا ببيت صاحبنا الأخ أسامة، ومن المفترض أن نلتقي بالشيخ في درسه بأحد مساجد مدينة كفر الشيخ العاصمة بعد وصولنا بوقت قصير بعد تناول طعام العشاء عند صاحبنا الذي أكرمنا.
أذكر أنه التقى بنا – بمجرد وصولنا – أحد أقارب الشيخ أبي إسحاق وأظنه عم الشيخ، فصافحنا، وتكلّم معنا، ولما أبلغه الأخ أسامة أننا جئنا من الإسكندرية معه للقاء الشيخ أبي إسحاق استغرب ذلك جدا وتكلم بكلام لا أذكر تفاصيله غير أنه يفيد بأنه اتهمنا بقلة العقل أو ما شابه ذلك، وأننا أكيد (مجانين) مثل ابن أخيه، الذي ترك التلفزيون والإعلام وهو خريج كلية الألسن، وسافر للأردن… يقصد سفر الشيخ أبي إسحاق للقائه المبارك بالشيخ الألباني رحمه الله.
توجهنا للقاء الشيخ فوصلنا المسجد الذي يلقي فيه درسه، ووقعت كلماته الأولى في أذني قبل أن أراه؛ حيث مكبرات الصوت خارج المسجد، فشعرت بنبرة وصوت وطريقة في الكلام غير معهودة لي في تلك الأيام، رغم أن كاتب هذه السطور كان قد سمع أيامها من جميع من يُعرف عنه أنه من أهل العلم، وعلى اختلاف مشاربهم. أقول شعرت بأسلوب جديد، ومادة جديدة، وتناول جديد، وكانت دروس الشيخ أيامها في ذكر علل بعض الأحاديث الضعيفة بكتاب مشهور جدا ويكاد يكون موجودا في كل بيت وهو كتاب رياض الصالحين.
وقعت عيناي على الشيخ أبي إسحاق الحويني، فرأيت في شخصه الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وسلف هذه الأمة، وشعرت بامتداد هذه الأمة، وأن تاريخها لم ينقطع، ورجع الأمل في نفسي، وانقشعت سُحب الكآبة التي كانت تثقلني أيامها.
وقد كانت هذه الكآبة لأمرين كانا يشغلاني؛ أولهما حال المسلمين وتركهم الأخذ بأسباب التقدم العلمي، وتأخرهم، وزاد في نفسي هذا الأمر بعد دخولي كلية الهندسة التي كنت أتصور فيها بسزاجة ابن الريف أنها الأمل والملاذ، وأني سأخرج بدخولها من قمقم الجهالة والتخلف إلى رحابة العلم والتقدم، ولكن الواقع كان مرا بسبب الهوة بين المواد التي تدرس بها والواقع المتخلف. وثاني هذه الأسباب بُعد الناس عن الإسلام كمنهج حياة وواقع يعيشون به.
أرجَـع لقائي بالشيخ أبي إسحاق الحويني لأول مرة الأمل في نفسي من جديد، وانقشعت هذه السُحب من فوق هامتي، شعرت بذلك، وأذكره وأتذكره دائما ولن أنساه ما حييت. وقد كتبت كل ما سمعته من فوائد يومها من الشيخ في كراس لا يزال عندي لليوم بفضل الله.
صافحنا الشيخ وتعرف علينا وحدد لنا الأخ أسامة معه موعدا بعد عصر اليوم التالي ففعل، وجلسنا أنا والأخ مجدي شمس الدين معه داخل سيارته لمدة عشر دقائق تقريبا، أجاب على بعض تساؤلاتنا منها ما كان يحيرنا وقتها بالفعل ومنها ما كنا نستطيل به هذه اللحظات الجميلة في رحابه.
كان الشيخ أبو إسحاق يومها ممتلئ الجسم، في عز شبابه، وزهرة عمره، عليه هالة من نور، وملبسه ومظهره وحركاته وسكناته ينبئونك عن معدن أصيل، وعن صاحب علم، وعن رجل من الزمن الغابر، كأنه بُعث من جيل الصحابة أو التابعين.
وأذكر بعد هذه الزيارة بعام؛ أي حوالي عام 1988؛ أنه وقع في يدي مجلد بخط الشيخ أبي إسحاق لأحد الكتب التي لم تطبع لليوم، وأنا في بيت أحد طلبة العلم في طنطا يسمى الشيخ عماد فرة، وكنت عنده في صحبة المهندس محمد عبد الحميد، من طلبة العلم في طنطا أيضا، فأخذت المجلد وتصفحته وقرأت فيه دررا من تعليقات الشيخ أبي إسحاق عليه، فاستغربت لحلاوة خطه، وجمال تصنيفه، ووقع في نفسي من يومها أن سيكون لهذا الرجل شأن، وقد كان.
انقطعت الصلة بالشيخ، إلا من خلال سماع ما يصل إلي من أشرطة له، إلى أن رأيته بالقاهرة بعد أحد عشر عاما ؛ وبالتحديد في 1998، ثم أخيرا بعد ظهوره في الفضائيات من سنوات قليلة.
وقد كنت أمس في زيارة الأخ الفاضل الدكتور محمد صلاح بمدينة 6 أكتوبر، ومعي نسخ هدية من كتابي (مكتبة الإسكندرية القديمة.. هل أحرقها عمرو بن العاص؟!) له ولبعض المشايخ، منهم الشيخ أبو إسحاق الحويني، فقال لي: أسلمه له بعد الرجوع من سفره إن شاء الله. فقلت له: أين هو؟ قال في ألمانيا للعلاج. وحكى لي عن مرضه بكلام مقتضب، فاسود الأفق في ناظريّ، وشعرت بغصة ومرارة، ثم دافعت ذلك بالدعاء له بالشفاء التام. ولم أنسه من أمس حتى الآن، وهو ما حركني لأن أكتب السطور التي بين يديك!
من أحسن ما في الشيخ أبي إسحاق الحويني حسن اختياره للموضوعات التي يتناولها، وحسن حفظه، وسرعة بديهته، وردوده القاطعة على كل شبهة تثار، فهو كالأسد الهصور، لا يقوى على صولاته العلمية صائل مهما كان، ولا يكاد يراه أو يسمعه أحد إلا واستقبل منه بقبول حسن، وأُعجب بأسلوبه، رغم أن تخصص الشيخ وهو علم الحديث، من عادته أن يجعل صاحبه بعيدا عن عامة الناس، غير أن الشيخ أبا إسحاق وفقه الله أن يفيد منه المتخصصون والعامة. فاللهم اشفه، وارفع عنه، وادفع عنه، وعافه واعف عنه، ونجّه يارب العالمين.