عندما يُـزيَّف التاريخ!…
بقلم/ ربيع عبد الرؤوف الزواوي
ألّف القائد العسكري البريطاني الجنرال سيرجون باجوت جلوب (1897 – 1986) كتابا بعنوان (الفتوحات العربية الكبرى) تتجلى فيه – كما يقول الدكتور محمد عمارة – النزعة الاستشراقية التي تعمل على تشويه الإسلام وتجريده وأمته وحضارته من كل معالم التميز والعبقرية والإبداع. ووضع فيه من الـسموم والأكاذيب و الافتراءات الشيء الكثير، لاسيمـا ما يتعلق منها بالفتوحات الإسلامية.
وقد تصدي لهذا الكتاب واحد من العسكريين المصريين المحترمين هو اللواء أركان حرب متقاعد الدكتور/ محمد بهاء الدين حنفي، فكشف ما في هذا الكتاب من أكاذيب وأفتراءات وأباطيل بنفـس طويل وحكمة، ولهجة هادئة بعيدة عن التعصب والاندفاع، رغم ما فيها مما يدعو إلى الغضب، في كتاب له بعنوان: (الفتوحات العربية في ميزان الإسلام والتاريخ).
ولما كان هذا الكتاب الأخير مهماً جداً؛ فقد رأيت أن أضع الخطوط العريضة التي خرجت بها منه في هذا المقال القصير والمهم، وإن كنت أدعو وأنصح بقراءة الكتاب لأهميته ولخطورة ما فيه من قضايا مهمة، ولما فيه من الفائدة الكبيرة لطالب الحقيقة مهما كان حجم التزييف والكذب لإخفائها.
هذا وقد طُبع الكتاب هدية مجانية مع مجلة الأزهر عدد شهر ربيع الآخر الجاري، وهو من ثمرات النقلة النوعية التي اكتسبتها مجلة الأزهر في الآونة الأخيرة على يد أستاذنا الفاضل الأستاذ الدكتور محمد عمارة وفقه الله.
فمن هو الجنرال (جلوب) ومن هو اللواء الدكتور محمد بهاء الدين حنفي؟… تخرّج جلوب في كلية وولتش العسكرية 1914 واشترك في الحرب العالمية الأولى وخدم في الاحتلال الانجليزي للعراق عام 1920، وفي عام 1926 التحق بقوات الصحراء المحاربة للقبائل العربية العراقية، ثم انتقل إلى شرق الأردن في1930 كما يقول د. محمد عماره – للتصدي للقبائل البدوية، وفي عام 1939 أُختير رئيساً لأركان حرب الفيلق العربي بالجيش العربي الأردني وليشرف على تدريبه. وفى حرب فلسطين 1948 قام بتشتيت وحدة الجيوش العربية مما أدي الى كارثة تسليم “اللّد” و ” الرملة ” إلى العصابات الصهيونية. وظل للأسف في موقعه بالجيش الأردني حتى أعفاه الملك حسين عام 1957 تحت ضغط الحركة الوطنية العربية. ولقد خدم جلوب الاستعمار الانجليزي من موقعه هذا في الأردن والعراق بالكتب التي ألّفها ومنها كتابه الذي هو محور مقالنا هذا؛ بهدف تشويه الإسلام وزرع اليأس والهزيمة فى وجدان الأجيال العربية المسلمة.
وأما اللواء أركان حرب الدكتور محمد بهاء الدين حنفي فهو خبير في التاريخ العسكري وباستراتيجيات المعارك التي كتب عنها، وهو باحث صبور على التعامل مع المصادر والمراجع بروح نقدية أثمرت نزاهة في إصدار الأحكام، كما حباه الله انتماءً عميقاً ووعياً بالإسلام وأمته وحضارته وإخلاصاً للحقيقة… وهو واحد من الذين يفخر بهم علم التاريخ العسكري في بلادنا، ولقد وفّقه الله لنقد ما جاء الكتاب الجنرال جلوب عن الفتوحات العربية الكبرى فكسر شوكة الباطل وأنصف الحقيقة.
هذا ولا يفوتني أن أنبه إلى أنه لم يتعرض لنقد كتاب (جلوب) كله؛ بل اكتفى بنقد ما يتعرض فيه للفتح الإسلامي الحاسم بين عامي 13 – 21 هـ فقط.
يمكن أن نضع خلاصة دراسة اللواء محمد بهاء الدين حنفي لكتاب جلوب في النقاط التالية:
كان هدف كتاب جلوب هو سرد أحداث الفتح الإسلامي التي جرت خلال ما يسميه هو بـ(عصر الحماس الديني)! وكأنّ هذا الفتح نوع من الاندفاع العاطفي المتهوّر بدافع التعصب الديني وليس لإبلاغ رسالة الله للعالمين.
وأن هذا الفتح في مجمله ما هو إلا أعمال مرتجلة عفوية عارضة، وقد تطورت الأحداث بسبب عدم السيطرة فكانت تتشكل كيفما اتفق! وأنه لم تكن هناك نية لهذا الفتح ولا تصميم عليه ولا تخطيط!.
الكتاب محاولة لرسم صورة مشوهة ومضلّله لكل الشخصيات الإسلامية بدءً من الرسول صلى الله عليه وسلم مروراً بخلفائه الراشدين، إلى باقي الصحابة رضوان الله عليهم؛ بهدف التشكيك في قدراتهم العسكرية وصفاتهم الشخصية، يقول جلوب في كتابه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (…لم يكن محمداً في الحقيقه قائداً عسكرياً ذا موهبة عسكرية بالغة، ولم يكن يشترك بنفسه في المعارك، بل يظل في لصفوف الخلفية لا يشترك في القتال اشتراكاً فعلياً)! ويقول: (… ومن الصحيح أنه استخدم وسائل الاغتيال والقتل أو رتّب حوادثهما …)! ويقول: (… وكان أتباعه يطيعونه… طاعة عمياء…) صفحة 658 – 659.
الكتاب محاولة للتهوين من شأن الأعمال العسكرية التي أنجزها المسلمون خلال الفتح، وإثبات افتقارهم إلى العلم العسكري وإتقان فن الحرب، ومحاولة إظهار اليهود على أنهم ضحايا القهر والاضطهاد، وتجنب الإشارة إلى خياناتهم وغدرهم وجرائمهم في حق الإسلام والمسلمين.
الكتاب محاولة للربط بين الصورة التي رسمها فيه لأحداث الفتح وحال المسلمين الحاضر مع التركيز على الفوارق الثقافية والاجتماعية والسياسية بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي، وأنه لابد من الأخذ بالنظام العلماني المدني وإلغاء الشريعة الإسلامية.
الكتاب محاولة لإيهام القارئ بأن ما يقوله ويسرده موجود في المصادر الإسلامية المتفق عليها كالطبري وغيره… بل كان يصدر بعض فصول كتابه بآيات القرآن ويقول خلاف ما فيها، وكنموذج على ذلك ذكره سورة الفيل كاملة بين يدي كلامه عن غزو أبرهة للكعبة ومع أن فيها قولة تعالي (ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول) لكنه يذكر في كلامه أن سبب هزيمة جيش أبرهة هو داء الجدري الذي أصابهم !!!.
برّر جلوب مخالفاته الكثيرة للمؤرخين المسلمين بمهاجمتهم إما بالتشكيك في انتماءاتهم وميولهم، أو برفض أسلوبهم، أو بالطعن في صدق رواياتهم… حتى وصل به الأمر لاتهام البعض منهم بعدم فهم ما يكتبونه عن معارك الفتح!!!.
كان من أحد سمات أسلوبه الانتقائية في اختيار الروايات واقتطاع الأجزاء التي يريدها من الرواية التي تدعم رأيه، وتجاهله لباقي الروايات التي تنقد رأيه وترد عليه، فقد أخذ من رواية البعض عن فتح مصر ما يؤيد به رأيه بأن الأقباط في مصر عانوا من بطش المسلمين وتجاهل باقي الروايات التي تؤكد عكس ذلك وهو الصحيح.
تجاهل بعض الروايات التاريخية التي تصادم آراءة العجيبة، أو نقل عبارات مقتضبة فيها!… أو يحاول طمس حقيقة الحدث من خلال سرد تاريخي مفصّل يحرص على أن يكون مشوقاً للقارئ وفي صياغة جذابة، أو يسارع إلي الهروب بإيجاد مبرّر؛ فمثلاً عندما وصلت به الأحداث إلي أن أصبح التفوُق العسكري للمسلمين حقيقة جلية لا يمكن إنكارها؛ سارع إلى الإدعاء بأنهم اقتبسوا خبراتهم من أعدائهم الفُرس والروم.
لم يتعرّض أبداً لأرقام عدد جيوش الفُرس والروم!!! ولا إلى المكاتبات المتبادلة بين الخليفتين الراشدَين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وبين القادة الميدانين؛ حتى يخفي جوانب العظمة والتخطيط والتنسيق والسيطرة على العمليات العسكرية، مع إشارته أحياناً لخفة الحركة لدى العرب مقابل بلادة وترهل جيوش الروم وأن هذه الخفة سبب انتصارهم على الروم!!!.
كان جلوب لا يعرض فكرته مرة واحدة، إنما كان يقطعها في عدة أماكن مع التركيز والإلحاح عليها في عدة أماكن حتي يتأكد من توصيلها للقارئ بطريقه غير مباشرة.
اتقان جلوب في الهمز واللمز والتلميح دون التصريح، مما مكنه من إلصاق ما يريد من تُهم بشخص الرسول صلي الله عليه وسلم، وتلميحه بأن أبا بكر رضي الله عنه دخل في الحرب طمعاً في الغنائم والأسلاب! ووصف عمر رضي الله عنه بالحِدّة، وبحسده لقادة جيوشه! وأنه يغار منهم! كما طعن في عدالته!… (لاحظ أن عدالة عمر تغنى بها العالم كله، وتناقلتها الأجيال، وعرفتها الحضارات، ودرستها الأكاديميات، ليس في العالم الإسلامي فحسب… بل في العالم كله!!!) وشكّك في صدق إيمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأن قادة الجيوش من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحاسدون.
وقوعه دون أن ينتبه فى تناقضات كثيرة، كان من أشنعها أنه كان يؤكّد دائما أن سبب الفتوحات هو الحماسة الدينية عند المسلمين… ثم يعود وينسب لنفس الأشخاص المتحمسين لدينهم ضعف الإيمان!!! ويتهمهم بالجهل ويطعن في صدق إيمانهم!!!.
وبالجملة فإن الكتاب كله يمثّل نظرة الاستعلاء لدي الغربيين إلي العالم العربي في أسوأ صورها، وهي الكذب وعدم الأمانه العلمية ودقة البحث.
وخلاصة القول أن جلوب كرّس كتابه هذا لهدف أساس هو الانتقاص من العسكرية الإسلامية وتشويه الرموز والقيم والمثل الإسلامية العليا، بهدف استبدالها بالنموذج الغربي… فهل نتنبه؟ إنه تزييف التاريخ في أبشع صوره!.