مكتبة الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
بقلم: ربيع عبد الرؤوف الزواوي

لا أكتب عن مكتبة الأستاذ أنو الجندي رحمه الله كما يكتب بعض الناس عن شيء سمعه، أو أنه زار الأستاذ أنور مرة أو مرتين في بيته فرأى المكتبة؛ فكتب عنها! إنما أكتب عن مكتبة رأيتها بعيني ولمستها بيدي كتابا كتابا… وللموضوع قصة.

عرفت الأستاذ عبد الله محمود نجل ابنة الأستاذ أنور الجندي رحمه الله في عام 2004 في شركة المصادر دوت كوم للبرمجيات بالقاهرة، والتي كانت تعمل على تغذية موقع ثمرات المطابع على الإنترنت لصالح شركة المصادر الأم بجدة، ببحوث الكتب والمجلات، ومكثت مديرا لهذه الشركة حتى توقف – للأسف – نشاط الشركة والموقع.

تكلم معي الأستاذ عبد الله محمود عن جده لأمه رحمه الله بكلام جديد غير الذي كنت أعرفه عن الأستاذ أنور الجندي رحمه الله، وصار حبي للرجل رحمه الله يكبر يوما بعد يوم. فقد حدثني بأمور لم تنشر ولم يعرفها أحد عن الرجل رحمه الله.

وحكى لي – فيما كان يحكي – عن وضع مكتبته الموجودة في بيته بمنطقة الطالبية بالجيزة، وعن حال الكتب، وعرفني تفاصيل ما يجري، وأن بعض الأفاضل جزاهم الله خيرا يحاولون حفظ تراث الرجل، وجمع ما تفرق من كتبه…

ثم شاء الله أن يتكرم والد الزميل عبد الله محمود بدعوتنا للغداء في بيته، أنا ومجموعة من الأفاضل منهم: الشيخ يوسف خلاوي المستشار العلمي لموقع ثمرات المطابع وقتها، والأستاذ أحمد الخليفي مدير التزويد، والأستاذ الفاضل إسماعيل الفخراني الصحفي المعروف بمؤسسة الأهرام، ثم تكررت الدعوة مرة ثانية، والحق أن الحاج محمود زوج ابنة الأستاذ أنور الجندي من أكرم الناس الذين عرفتهم في حياتي.

ثم قام الحاج محمود وأسرته بزيارتنا في منزلنا، وسمعت من ابنة الأستاذ أنور الجندي كلاما جديدا تماما عن والدها الأستاذ أنور رحمه الله، فزاد ذلك من حبي للرجل. وفاتحتني في رغبتها في إدراك المكتبة التي توشك على الضياع، فلم أتردد لحظة.

عقدت العزم على القيام بحق هذا الرجل علينا، فصرت – ومعي مجموعة من الزملاء – نتردد على المكتبة كل يوم سبت للقيام بأهم وأصعب مرحلة وهي تنظيف الكتب والمكتبة من الغبار والأتربة، فالمكتبة كانت غير صالحة تماما للتعامل معها، وأن كل من أتى لف ودار وترك هذه المرحلة لصعوبتها، ولكونها تحتاج مثقفين وعارفين للكتب وليس عمال نظافة فحسب، لا سيما أن ورق كثير من الكتب كان يتقطع بسهولة لولا العناية الفائقة والترفق به.

أذكر من الزملاء الذين شاركوا في هذا العمل؛ منهم: الأستاذ عمرو الجندي، والأستاذ أشرف مرسي، والأستاذ عبد الله محمود، والأستاذ محمد الزهري، وغيرهم لا أذكرهم الآن… وهناك رأيت عجبا.

رأيت منبعا للثقافة الأصيلة، وخزانة للمعرفة، وصومعة لراهب أفنى ما يزيد عن نصف قرن باحثا، ومتأملا، وقارئا، وكاتبا، واستنشقت مع غبار الكتب عبق الماضي الأصيل، وتنفست مع كل كتاب أنفاس المتلهف لقراءة ما فيه، ورأيت كتبا لو عشت قرونا لم أتمكن من رؤيتها.

كنت أرى أن لكل كتاب مع الأستاذ أنور الجندي حكاية، وكنت أرى عبارات الرجل رحمه الله وتعليقاته على الكتب، وما يتركه من قصاصات أو أفكار مدونة، أو أعمال ينوي إخراجها، حملا ثقيلا يوهن كاهلي، وينوء بحمله ضعيف مثلي، وكأنها أمانات كنت أتلقيها من الرجل رحمه الله يدا بيد. وكنت أقول في نفسي: هل ستتحمل التبعة؟ هل ستفي بالعهد؟ هل ستضطلع بالمهمة؟ هل.. هل؟.

رأيت مشاريع ضخمة كان ينوي الراحل إنجازها، وأعمالا عظاما بدأها وكان يريد إتمامها، رأيت عظمة ما كان يحمله الرجل من أفكار، وسمو ما يشغله من رسالة، وضخم ما يفكر فيه من مهام صعبة، وما يعتقده من أفكار، وما يخطط له من أهداف.

كنت أفكر في كل هذا وأنا مشغول مع مَن معي مِن الزملاء بأكوام التراب التي تعلوا الكتب، وما فعلته الحشرات والجرز والفئران في الكتب النادرة، وكنت أشعر مع كل نقص حدث في كتاب أو مجلد بوخذ الضمير وعضة الأسف على ما أصابها من فقد أو تلف.

كانت أكوام التراب فوق ما يتخيله متخيل، لدرجة أننا كنا مجبرين على لبس الكمامات حفظا لصدورنا من الغبار القديم المتراكم، وتقليلا للتأثر برائحة الغبار التي كانت لا تحتمل.

وكنا كلما أنهينا جزء من المكتبة لففناه بأكياس حفظا له من الغبار المنبعث من جزء آخر، ومضت الأسابيع على ذلك حتى انتهت المهمة الأولى، وهي غير كافية بالمرة، حيث أعتبرها مجرد إنقاذ لهذه الكنوز من مزيد من التلف، وأنها تحتاج بعد ذلك لترميم التوالف، وإكمال النواقص، وجمع الأفكار والمشاريع التي كان يخطط لها الراحل رحمه الله.

أعرف أن مقالي هذا – وغيره من عشرات المقالات التي نادت بإنقاذ مكتبة الأستاذ أنور الجندي – لن تفعل شيئا ذا بال للمكتبة! وأعرف أننا مقصرون، ولم نقم بعشر ما علينا من حق تجاه هذا المجاهد العظيم، وهذا الفارس المغوار، الذي أوقف حياته للدفاع عن بيضة هذا الدين الذي نؤمن به.

انقطعت صلتي بعد ذلك بمكتبة الأستاذ أنور الجندي، لظروف قهرية، ولا أدري ما تم بعد ذلك بشأنها، ولكن الذي أعرفه أنه قد سارت الأمور في اتجاه إيجابي، ونسأل الله أن يجزي كل من ساهم في الاستفادة من هذه المكتبة العظيمة خير الجزاء.

ولعل الله استخدمنا بفضله في أصعب مرحلة من مراحل هذا المشروع وهو مجرد تحويل الكتب إلى أشياء آدمية يمكن تناولها باليد دون تأذي، بعد أن كان قد مضى على وفاة الأستاذ أنور أعوام، وقد كانت ابنته الحاجة أم عبد الله أخبرتني أن الإهمال أصابها والأستاذ أنور على قيد الحياة، حيث كان لا يبالي بتنظيفها لانهماكه في التأليف ولكون صحته كانت لا تسعفه على عمل اللازم تجاهها، لا سيما الفترة الأخيرة من عمره رحمه الله. كما أن جماعة من محبي الشيخ رحمه الله ممن حاولوا البدء في حفظ تراث الراحل كانوا يتهيبون من البدء فيما قمنا به مع جماعة من الزملاء تقدم ذكرهم.

ومما يؤلم بعض من قام بهذا العمل – تنظيف الكتب من الغبار – الذي استمر لعدة أسابيع متتالية أن أحدا ممن جاء بعد ذلك فأكمل المسيرة لم يشر لهذه المرحلة الصعبة لا من قريب ولا من بعيد، فكنت أخفف من آلام بعضهم بقولي: إن الذي عملنا من أجله سبحانه وتعالى يعرف حقيقة ما قمنا به، وما تكبدناه من مشاق، وأنّ الثناء على فعلنا هذا يعد أجرا دنيويا، وأننا لم نمتهن مهنة منظفي البيوت، بل نحن مارسنا بحب مهنة عاشقي المعارف والعلوم! وهولاء أجرهم ليس ثناء ولا أموالا.

فأنا شخصيا لا أتذكر مرة واحدة منذ اقتنيت كتبا منذ أكثر من ثلاثين عاما أني قمت بتنظيف المكتبة والكتب من الغبار! فلماذا قمت بهذا عن حب في مكتبة الأستاذ أنور الجندي؟ والله ليس إلا إيمانا بالرسالة، وحبا في نيل الثواب من الله، وقياما بحق الرجل علينا. فاللهم لا تحرمنا الأجر بعد انكشاف الستر.

ولعل من المهم أن يعرف القارئ الكريم الآن شيئا عما في هذه المكتبة العامرة التي تجاوز عدد ما بها من كتب خمسة آلاف كتاب، وقد يكون ما جاء على موقع معلمة الأسلام وهو الموقع الرسمي للأستاذ أنور الجندي والذي جاء ثمرة من ثمار جهود العاملين على إخراج مشروع الأستاذ أنور الجندي، فجزاهم خيرا، ونسأل الله لهم التوفيق والسداد.

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon