صُروف الدّهْر
بقلم ربيع عبد الرؤوف الزواوي

الأحداث والفتن الحالية يمنعاني من أن أتكلم أو أكتب أو – حتى – أقرأ!!!… لكن في صفحات أدبنا العربي سلوى للقلب ونزهة للنفس في آن واحد… كان مما عشت معه اليوم أبيات في غاية الجمال والرقة والحكمة كتبها في القرن الرابع الهجري ملك عالم أديب هو: قابوس الزياري – حاكم جرجان وطبرستان ويرجع نسبه إلى أسرة كسرى أنوشروان، وكان يكتب الشعر بالعربية والفارسية – عندما وقعت له محنة فقد على إثرها ملكه 18 عاما، وكان أديبا عالما ولكنه – للأسف – كان ظالما!…


عُرف قابوس الزياري بلقب: (شمس المعالي) بن (وشمكير)؛ وقد عُرف أبوه بلقب وشمكير أي صائد طائر الوشم المعروف بلحمه اللذيذ. نقل عنه الكثير من شعره كبراء الأدباء مثل ابن يمين وابي الريحان البيروني والثعالبي والخسروي والجرجاني وغيرهم.

ستجد أنك قرأت هذه الأبيات قبل ذلك أو أنك سمعتها… وقد تكون تحفظها، أو تحفظ بعضها… وأنا مثلك عشت دهرا لا أعرف من قائلها… ولست أنا وحدي بل كثير من الأدباء يرون أنها من الأبيات الشهيرة التي لم يعرف قائلها في مصنفات الأدب والتاريخ … ولكنها أبيات طارت شهرتها في الأفق وسرت بها الركبان ونُسي قائلها…

يقول قابوس الزياري بعد نكبته وخروجه من دياره:

الدهر يومان؛ ذا أمن وذا حذرُ *** والعيش شطران؛ ذا صفو وذا كدرُ

قل للذي بصروف الدهر عيّرنا *** هل عاند الدهر إلا من له خطرُ

ألا ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ *** وتستقر بأقصى قعره الدررُ

فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا *** ونالنا من تمادي بؤسها الضررُ

ففي السماء نجوم ما لها عدد *** وليس يكسف إلا الشمس والقمرُ

وكم على الأرض من خضراء مورقة *** وليس يرجم إلا ما له ثمرُ

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت *** ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ

يالها من أبيات تفيض رقة وعذوبة، يفلسف فيها هذا الملك الأديب القضية ويعزي نفسه في فقد ملكه مع معيّريه من الشامتين، والأعداء…

ومن طريف ما حدث معي أني من شدة تأثري بالبيت الأول أن كتبت منذ حوالي عشر سنوات أبياتا واستعملت فيها اسم الإشارة ذا الذي استعمله أديبنا في بيته الأول… وقامت إحدى الجهات بنشر الأبيات، فتصدى شاعر عراقي بنقد الأبيات وكان من بين ما انتقده علي استعمال لفظ ذا في أبياتي ولعله تصور أني استعملتها بمعنى صاحب وليس اسم إشارة.

ومما تركه هذا الأديب الأمير مقطوعة رائعة عندما ضاعت إمارته:

لئن زالت أملاكي وفات ذخائري *** وأصبح جمعي في ضمان التفرّقِ

فقد بقيت لي همة ما وراءها *** منال لراج، أو بلوغ لمرتقي

ولي نفس حرٍ تأنف الضيم مركبا *** وتكره ورد المنهل المتفقِ

فإن بلغت نفسي فلله درّها *** وإن بلغت ما أرتجيه فأخلقِ

ومن لم يردني والمسالك جمةٌ *** فأي طريقٍ شاء فليتطرقِ

انقطع أديبنا عن ملكه 18 عاما كانت ما بين عامي (370 : 388) هـ ثم عاد له ملكه….. وكان يقرب الأدباء والعلماء منهم البيروني وابن سينا… وكان من ظلمه انه قتل أحد مقربيه من خدمه وحشمه فثار عليه الباقون فخلعوه ونصبوا مكانه ابنه الذي لم يكن له في الأدب ولا في العلم حظ.

وكان مما قاله بعد خلعه هذه الأبيات:

بالله لا تنهضي يا دولة السفل *** وقصري فضل ما أرخيت من طوَلِ

أسرفتِ فاقتصدي، جاوزت فانصرفي *** عن التهور، ثم امش على مهلِ

مخدّمون ولم تخدم أوائلهم *** مخولون وكانوا أرذل الخولِ

ويروى أنه أرسل إلى أحد الأمراء سبعة أقلام، وكتب له ثلاثة أبيات يصفهم له قائلا:

قد بعثنا إليك سبعة أقلا *** م لها في البهاء حظٌ ٌ عظيم

مرهفات كأنها ألسن الحيّا *** ت قد جاز حدها التقويم

وتفاءلتُ أن ستحوي الأقا *** ليم بها؛ كل واحد إقليم

ومن أحسن ما أُثر عنه هذان البيتان اللذان يفيضان رقة وعذوبة وعاطفة جياشة لا سيما التشبيه في البيت الثاني منها:

خطرات ذكرت تستثير مودتي *** فأحس منها في الفؤاد دبيبا

لا عضو لي إلا وفيه صبابة *** فكأن أعضائي خُلقن قلوبا

شكرا للأحداث التي أجبرتني على الخوض غمار ما لا تجود الظروف بالخوض في مثله…

FacebookTwitterPinterestGoogle +Stumbleupon